صفحة جزء
مسألة مجتهد الصحابة إذا لم يجعل قوله حجة ففي جواز تقليده في هذه الأعصار خلاف : ذهب إمام الحرمين وغيره أن العامي لا يقلده ، ونقله عن إجماع المحققين ، قالوا : وليس هذا لأن دون المجتهدين دون الصحابة ، معاذ الله : فهم أعظم وأجل قدرا ، بل لأن مذهبهم لم يثبت حق الثبوت كما ثبتت مذاهب الأئمة الذين لهم أتباع قد طبقوا الأرض ، ولأنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها ، بخلاف من بعدهم فإنهم كفوا النظر في ذلك وسبروا ونظروا وأكثروا أوضاع المسائل . ونازع المقترح وقال : لا يلزم من سبر الأئمة الأربعة وجوب تقليدهم ، لأن من بعدهم جمع سبرا أكثر منهم . وينبغي أن يتبع المتأخرين منهم على قضية هذا . قال : إنما الظاهر في التعليل في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابة لكان فيه من المشقة عليهم ما لا يطيقون من تعطيل معاشهم وغير ذلك ، فلهذا سقط عنهم تقليد الصحابة [ ص: 339 ] قلت : وسئل محمد بن سيرين فأحسن فيها الجواب ، فقال له السائل ما معناه : ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا ، فقال محمد : لو أردنا فقههم لما أدركه عقولنا . رواه أبو نعيم في الحلية " .

ومال ابن المنير إلى ما قاله الإمام ولكن لغير هذا المأخذ فقال ما حاصله : إنه يتطرق إلى مذهب الصحابة احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد : من قوة عباراتهم واستصعابها على أفهام العامة . ومنها : احتمال رجوع الصحابي عن ذلك المذهب ، كما وقع لعلي وابن عباس وغيرهما . - ومنها : أن يكون الإجماع قد انعقد بعد ذلك القول على قول آخر . - ومنها : أن لا يكون إسناد ذلك إلى الصحابة على شرط الصحة . وهذا بخلاف مذاهب المصنفين فإنها مدونة في كتبهم وهي متواترة عنهم بنقلها عن الأئمة ، فلهذه الغوائل حجرنا على العامي أن يتعلق بمذهب الصحابي . ثم وراء ذلك غائلة هائلة ، وهي أنه يمكن أن الواقعة التي وقعت له هي الواقعة التي أفتى فيها الصحابي ويكون غلطا ، لأن تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها للغلط . وبالجملة فالقول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع ونصوصه وظواهره . إما لأن قول الصحابي حجة على أحد القولين فهو ملحق بقول الشارع ، وإما لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة ، فامتناع تقليده لعلو قدره لا لنزوله . وأما ابن الصلاح فجزم في كتاب الفتيا " بما قاله الإمام وزاد أنه لا يقلد التابعين أيضا ولا من لم يدون مذهبه ، وإنما يقلد الذين دونت مذاهبهم وانتشرت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها ، بخلاف غيرهم فإنه نقلت عنهم الفتاوى مجردة ، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا ، أو أنيط كلام قائله ، فامتناع التقليد إنما هو لتعذر نقل حقيقة مذهبهم .

[ ص: 340 ] وعلى هذا فينحصر التقليد في الأئمة الأربعة والأوزاعي وسفيان . وإسحاق وداود على خلاف في داود حكاه ابن الصلاح وغيره ، لأن هؤلاء هم ذوو الأتباع . ولأبي ثور وابن جرير أتباع قليلة جدا . وذهب غيرهم إلى [ أن ] الصحابة يقلدون لأنهم قد نالوا رتبة الاجتهاد ، وهم بالصحبة يزدادون رفعة . وهذا هو الصحيح إن علم دليله . وقد قال الشيخ عز الدين في فتاويه " إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله . وقد قال : لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة ، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقا ، وإلا فلا ، [ لا ] لكونه لا يقلد ، بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت . وقال ابن برهان : تقليد الصحابة ينبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه قال : مذاهب الصحابة لم تكثر فروعها حتى يمكن المكلف الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال ، وهو ممنوع ، ومذاهب المتأخرين ضبطت ، فيكفي المذهب الواحد المكلف طول عمره ، فيكمل هذا الحكم وهو منع تقليد الصحابة . وقال إلكيا ، بعد أن قرر منع الانتقال : الواحد منا لا يأخذ بمذهب الصحابة إذا كان مقلدا ، بل يأخذ بمذهب الشافعي أو غيره من أرباب المذاهب ، من حيث إن الأصول التي وضعها أبو بكر لا تفي بمجامع المسائل . وأما الأصول التي وضعها الشافعي وأبو حنيفة فهي وافية بها . فلو قلنا بتقليد الصديق في حكم لزم أن يرجع إليه في حكم آخر ، وقد لا يجده . مسألة القائلون بالتقليد أوجبوا التقليد في هذه الأعصار ومستندهم فيه أنهم

[ ص: 341 ] استوعبوا الأساليب الشرعية فلم يبق لمن بعدهم أسلوب متماسك على السبر . ولهذا لما أحدثت الظاهرية والجدلية بعدهم خلاف أساليبهم قطع كل محقق أنها بدع ومخارق لا حقائق . لكن الجدلية يعترفون بأن الشريعة لا تثبت بتلك الأساليب الجدلية ، وإنما عمدتهم في استحداثها تمرين الأذهان وتفتيح الأفكار . وأما كونهم يعتقدون أنها مستندات وحجج عند الله يلقى بها فلا . وأما الظاهرية فلما أحدثوا قواعد تخالف قواعد الأولين أفضت به إلى المناقضة لمجلس الشريعة ، ولما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق وأن غيرهم على الباطل أخرجوا من أهل الحل والعقد ، ولم يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء ، وسبق في باب الإجماع الكلام على أنه هل يعتد بخلافهم ؟ وهذا كله يوضح أن الضرورة دعت المتأخرين إلى اتباع المتقدمين ، لأنهم سبقوهم بالبرهان حتى لم يبقوا لهم باقية يستبدون بها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولكن الفضل للمتقدم ، وظهر بهذا تعذر إثبات مذهب مستقل بقواعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية