صفحة جزء
مسألة من قلد بعض الأئمة ثم ارتفع قليلا إلى درجة الفهم والاستبصار ، فإذا رأى حديثا محتجا به يخالف رأي إمامه وقال به قوم ، فهل له الاجتهاد ؟ وفي [ ص: 344 ] ذلك أطلق إلكيا الطبري ، وابن برهان في الوجيز " أنه يجب عليه الأخذ بالحديث ، لأنه مذهب الشافعي ، فقد قال : إذا رأيتم قولي بخلاف قول النبي عليه الصلاة والسلام ، فخذوا به ، ودعوا قولي . وقال القرافي : قد اعتمد كثير من فقهاء الشافعية على هذا ، وهو غلط ، فإنه لا بد من انتفاء المعارض ، والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة ، حتى يحسن أن يقال : لا معارض لهذا الحديث ، أما استقراء غير المجتهد المطلق ، فلا عبرة به ، وهذا الذي قاله القرافي تحجير ، وما يريد ب " انتفاء " المعارض إن كان في نفس الأمر فباطل .

أما على قول المصوبة فباطل وأما على قول " أن المصيب واحد " فلأنه غير مأمور بما في نفس الأمر بل بما أدى إليه اجتهاده ، وإن كان المراد به في نظر المجتهد ، فكذلك أيضا ، لأن مثل هذا القول إذا كان له الحكم المؤدي إليه اجتهاده دليل ، ثم يقول : " إذا صح حديث أقوى مما عندي ، فذلك مذهبي ، فخذوا به ، واتركوا قولي " فكيف يصح هذا مع عدم المعارض ؟ ، قال ابن الصلاح : وقد عمل بهذا جمع من الأصحاب ، كالبويطي والداركي ، وغيرهما من الأصحاب ، وليس هذا بالهين ، فليس كل فقيه يسوغ أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من المذهب ، وقد عمل أبو الوليد بن الجارود بحديث تركه الشافعي ، وأجاب عنه ، وهو حديث { أفطر الحاجم والمحجوم } ، وعن ابن خزيمة أنه قيل له : هل تعرف سنة للرسول في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه ؟ قال : لا . قال أبو عمرو : وعند هذا نقول : إن كان فيه آلات الاجتهاد مطلقا ، أو في ذلك الباب ، أو في تلك المسألة ، كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث ، وإن لم تكتمل آلته ، ووجد في قلبه حزازة من الحديث ، ولم يجد له معارضا بعد البحث ، فإن كان قد عمل بذلك الحديث إمام مستقل فله التمذهب به ، ويكون ذلك عذرا له في ترك قول إمامه ، وقال أبو زكريا النووي [ ص: 345 ] إنما يكون هذا لمن له رتبة الاجتهاد في المذهب ، أو قريب منه ، وشرطه أن يغلب على ظنه ، أن الشافعي لم يقف على هذا الحديث ، أو لم يعلم صحته ، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ، ونحوها من كتب أصحاب الآخذين عنه ، وهذا شرط صعب ، قل من يتصف به .

وقال ابن الزملكاني : إن كانت له قوة للاستنباط ، لمعرفته بالقواعد ، وكيفية استثمار الأحكام من الأدلة الشرعية ، ثم استقل بالمنقول ، بحيث عرف ما في المسألة من إجماع أو اختلاف ، وجمع الأحاديث التي فيها ، والأدلة ، ورجحان العمل ببعضها ، فهذا هو المجتهد في الجزئي ، والمتجه أنه يجب عليه العمل بما قام عنده على الدليل ، ولا يسوغ له التقليد . وإذا تأمل الباحث عن حال الأئمة المنقول أقاويلهم ، وعدوا من أهل الاجتهاد ، ثم أنهم إنما عدوا لذلك لاستجماعهم شروط الاجتهاد الكلية المشتركة بين جميع المسائل ، وأحاطوا بأدلة جملة غالب من الأحكام ، وقد علم من حال جمع منهم في بعض المسائل عدم الاطلاع على ما ورد في تلك المسألة ، ومنهم من يعلق القول على صحة حديث لم يكن قد صح عنده ، ومنهم من يقول : إن صح هذا الحديث ، كذا ، وإن صح قلت به ، ثم يجد تلك الزيادة قد صحت ، وهذا الحديث المعلق عليه قد صح ، أو يعلل رد الحديث بعلة ظهرت له يظهر انتفاؤها ، ومثل ذلك في قول الأئمة كثير ، ولا سيما من كثر أخذه بالرأي وترجيح الأقيسة .

فإذا كان هذا الموصوف يقلد الإمام في مسائل يسوغ له التقليد فيها ، وقع له في مسألة هذه الأهلية ، تعين عليه الرجوع إلى الدليل والعمل به ، وامتنع عليه التقليد ، وأما من لم يبلغ هذه الدرجة ، بل له أهلية النظر والترجيح ، وفيه قصور عن جميع أهلية الاجتهاد المشتركة ، ولكن جمع أدلة تلك المسائل كلها ، وعرف مذهب العلماء فيها ، لهذا لا يتعين عليه العمل بقول إمامه ، ولا بهذا الدليل ، بل يجوز له التقليد ، وينبغي له تقليد من [ ص: 346 ] الحديث في جانبه إذا لم يعلم اطلاع إمامه عليه وتركه لعلة فيه ، أو لوجود أقوى منه . أما إن كان قد جمع أهلية الاجتهاد المشتركة بين جميع المسائل ، ولم يجمع أدلة هذه المسائل ، بل رأى فيها حديثا يقوم بمثله الحجة فهذا له أحوال : أحدها : أن يعلم حجة إمامه ، كمخالفة مالك لعمل أهل المدينة على خلافه ، فإن كان ممن يعتقد رجحان مذهب إمامه بطريقه فليعمل بقوله ، وهو أولى ، وإن لم يتعين . الثانية : أن يعلم إجمالا ، أن لإمامه أو لمن خالف العمل بهذا الحديث أدلة ، يجوز معها المخالفة أو يقوى ، فلا يتعين عليه ، بل لا يترجح مخالفة إمامه ، وله تقليد القائل بالحديث من المجتهدين .

الثالثة : أن لا يعلم الحجة المقتضية لمخالفة الحديث إجمالا ولا تفصيلا ، ولكن يجوز أن يكون للمخالف حجة تسوغ معها المخالفة ، وأن لا يكون لكونه لم يجمع أدلة تلك المسألة نقلا واستدلالا ، فالأولى بهذا تتبع المآخذ ، فإذا لم يتبين له ما يعارض الحديث من أدلة القرآن والسنة ، فالعمل بالحديث أولى تقليدا لمن عمل به ، وله البقاء على تقليد إمامه . ويدل لهذا ما استقرئ من أصول الصحابة ومقلديهم ، فإنهم لم ينكروا على من استفتاهم في مسألة ، وسأل غيرهم عن أخرى ، أمر بالعود إلى من قلد قبل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية