صفحة جزء
مسألة فلو التزم مذهبا معينا ، كمالك والشافعي ، واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر ؟ فيه مذاهب : ( أحدها ) : المنع ، وبه جزم الجيلي في الإعجاز ، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع ، فلا ضرورة إلى الانتقال إلا التشهي ، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين . و ( الثاني ) : يجوز ، وهو الأصح في " الرافعي " ، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين ، لأن السبب - وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله ، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب . ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين . بل يقوى القول بالانتقال في صورتين : ( إحداهما ) : إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا كالحلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء ثم فعله ناسيا أو جاهلا ، وكان مذهب مقلده [ ص: 376 ] عدم الحنث فخرج منه لقول من أوقع الطلاق ، فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث قطعا .

ولهذا قال الشافعي : إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام . و ( الثانية ) : إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا صحيحا ولم يجد في مذهب إمامه دليلا قويا عنه ولا معارضا راجحا عليه ، فلا وجه لمنعه من التقليد حينئذ محافظة على العمل بظاهر الدليل . وأما ما نقله بعض الأصوليين من الإجماع على منع رجوع المقلد عمن قلده فهو - إن صح - محمول على تلك المسألة بعينها بعد أن عمل بقوله فيها . واعلم أنا حيث قلنا بالجواز فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة . وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقا ، إذ لا طريق له إليه .

ولهذا قال البغوي : لو أن عاميا شافعيا لمس امرأته وصلى ولم يتوضأ وقال : عند بعض الناس الطهارة بحالها ، لا تصح صلاته ، لأنه بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي ، فأشبه ما إذا اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى جهة فأراد أن يصلي إلى غيرها لا يصح ، قال : ولو جوزناه لأدى ذلك إلى أن يرتكب جميع محظورات المذهب ، كشرب المثلث ، والنكاح بلا ولي ونحوه ، ويقول : هذا جائز ، ويترك أركان الصلاة ويقول : هذا جائز ، ولا سبيل إليه . انتهى . و ( الثالث ) : أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا ، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره ، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره .

و ( الرابع ) : إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب ، وإن حدث وقلد إماما في حادثة وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه . واختاره إمام الحرمين ، لأن قبل تقرير المذاهب ممكن ، وأما بعد فلا ، للخبط وعدم الضبط . [ ص: 377 ] و ( الخامس ) : إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز . قاله القدوري الحنفي . و ( السادس ) : واختاره ابن عبد السلام في " القواعد " - : التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أو لا ، فإن كان الأول فليس [ له ] الانتقال إلى حكم يجب نقضه ، لبطلانه ، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال ، لأن الناس لم يزالوا [ كذلك ] في عصر الصحابة ، إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة ، من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره ، ولو كان ذلك باطلا لأنكروه .

وقال في " الفتاوى الموصلية " - وقد سئل عن شافعي حضر نكاح صبية لا أب لها ولا جد والشهادة على إذنها له في التزويج - فأجاب : إن قلد المخالف في مذاهب جاز ، وإلا فلا . ويوافقه قول النووي في " الروضة " في النكاح بلا ولي ولا شهود أنه يجب مهر المثل ، سواء اعتقد التحريم أو الإباحة ، باجتهاد ، أو تقليد ، أو حسبان ، أو مجرد . و ( السابع ) : - واختاره ابن دقيق العيد - الجواز بشروط : ( أحدها ) أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها ، كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى . ( والثاني ) ألا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع به . ( والثالث ) انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه . ودليل اعتبار هذا الشرط قوله : { والإثم ما حاك في نفسك } فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم .

بل أقول : إن هذا شرط جميع التكاليف وهو ألا يقدم الإنسان على ما يعتقده [ ص: 378 ] مخالفا لأمر الله . ولا اشتراط أن يكون الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي ، بل إذا كان مخالفا لظاهر النصوص بحيث يكون التأويل مستكرها ، فيكفي في ذلك عدم جواز التقليد لقائل القول المخالف لذلك الظاهر . انتهى . ونقل القرافي عن الزناتي من أصحابهم الجواز بثلاثة شروط : ( أحدها ) أن لا يجمع بينهما على صورة تخالف إجماع المسلمين ، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود . و ( الثاني ) أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلده في عمله . و ( الثالثة ) أن لا يتبع رخص المذاهب . قال : والمذاهب كلها مسلك إلى الجنة ، وطرق إلى الخيرات ، فمن سلك منها طريقا وصله . انتهى .

وحكى بعض الحنابلة هذا الخلاف في أن الأولى الأخذ بالأخف أو الأثقل . ثم قال : والأولى أن من بلي بوسواس أو شك أو قنوط فالأولى أخذه بالأخف والإباحة والرخص ، لئلا يزداد ما به ويخرج عن الشرع ، ومن كان قليل الدين كثير التساهل أخذ بالأثقل والعزيمة لئلا يزداد ما به ، فيخرج إلى الإباحة . ومر بي أن عبد الله بن المبارك سئل عمن حلف بالطلاق ألا يتزوج ثم بدا له ، فهل له أن يأخذ بقول من يجوز له ذلك ؟ فقال : إن كان يرى هذا القول حقا أن يبتلى بهذه المسألة فنعم ، إلا فلا . وما أحسن هذا الجواب من متورع ، وقسم بعضهم الملتزم لمذهب إذا أراد تقليد غيره إلى أحوال : ( إحداها ) : أن يعتقد - بحسب حاله - رجحان مذهب ذلك الغير في تلك المسألة ، فيجوز اتباعا للراجح في ظنه . ( الثانية ) أن يعتقد مذهب إمامه ، أو لا يعتقد رجحانا أصلا ، لكن [ ص: 379 ] في كلا الأمرين - أعني اعتقاده رجحان مذهب إمامه ، وعدم الاعتقاد - يقصد تقليده احتياطا لدينه ، كالحيلة إذا قصد بها الخلاص من الربا ، كبيع الجمع بالدراهم وشراء الجنيب بها ، فليس بحرام ولا مكروه ، بخلاف الحيلة على غير هذا الوجه حيث يحكم بكراهتها .

( الثالثة ) أن يقصد بتقليده الرخصة فيما هو محتاج إليه ، لحاجة لحقته ، أو ضرورة أرهقته ، فيجوز أيضا ، إلا إن اعتقد رجحان مذهب إمامه ويقصد تقليد الأعلم فيمتنع ، وهو صعب . والأولى : الجواز . ( الرابعة ) ألا تدعوه إلى ضرورة ولا حاجة ، بل مجرد قصد الترخص من غير أن يغلب على ظنه رجحانه ، فيمتنع ، لأنه حينئذ متبع لهواه لا للدين . ( الخامسة ) أن يكثر منه ذلك ويجعل اتباع الرخص ديدنه ، فيمتنع ، لما قلنا وزيادة فحشه . ( السادسة ) أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع ، فيمتنع . ( السابعة ) أن يعمل بتقليده الأول ، كالحنفي يدعي شفعة الجوار فيأخذها بمذهب أبي حنيفة ، ثم تستحق عليه فيريد أن يقلد مذهب الشافعي ، فيمتنع ، لتحقق خطئه إما في الأول وإما في الثاني ، وهو شخص واحد مكلف .

تنبيهات الأول - ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجوز قبل العمل ولا بعده بالاتفاق . وليس كما قالا ، ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد [ ص: 380 ] العمل أيضا ، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته ؟ ، لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف ما لم يظهر له غيره ، والعامي لا يظهر له ، بخلاف المجتهد ، حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة . وفصل بعضهم فقال : التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك ، كالحنفي يقلد في الوتر ، ومن الحظر إلى الإباحة ليفعل ، كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز ، والفعل والترك لا ينافي الإباحة ، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله ، فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد . وإن كان بالعكس فإن كان يعتقد الإباحة فقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد .

وليس في العامي إلا هذه الأقسام . نعم ، المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه ، لأنه حينئذ محض تشه . والثاني - ظاهر كلامهم جريان هذا الخلاف في تتبع الرخص وغيرها . وربما قيل : اتباع الرخص محبوب ، لقوله عليه السلام : { إن الله يحب أن تؤتى رخصه } . ويشبه جعله في غير المتتبع من الانتقال قطعا ، خشية الانحلال . وحكى ابن المنير عن بعض مشايخ الشافعية أنه فاوضه في ذلك وقال : أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول : كل مجتهد مصيب ، وأن المصيب واحد غير معين ، والكل دين الله ، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله ، قال : حتى كان هذا الشيخ - رحمه الله - من غلبة شفقته على العامي إذا جاء يستفتيه - مثلا - في حنث ينظر في واقعته ، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي ولا يحنث على مذهب مالك قال لي : أفته أنت .

يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعا . كان ينظر أيضا في فساد الزمان وأن الغالب عدم التقيد ، فيرى أنه إن شدد على العامي ربما لا يقبل منه في الباطن ، فيوسع على نفسه ، فلا مستدرك ولا تقليد ، بل جرأة على الله تعالى واجتراء على المحرم . قلت : كما اتفق لمن سأل التوبة وقد قتل تسعا [ ص: 381 ] وتسعين . قال : فإذا علم أنه يئول به إلى هذا الانحلال المحض فرجوعه حينئذ في الرخصة إلى مستند وتقليد الإمام أولى من رجوعه إلى الحرام المحض . قلت : فلا ينبغي حينئذ إطلاق القول بالجواز مطلقا لكل أحد ، بل يرجع النظر إلى حال المستفتي وقصده . قال ابن المنير : في الحكايات المسندة إلى ولد ابن القاسم حنث في يمين حلف فيها بالمشي إلى بيت الله الحرام فاستفتى أباه ، فقال له : أفتيك فيها بمذهب الليث كفارة يمين ، وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك . يعني بالوفاء ، قال : ومحمل ذلك عندي أنه نقل له مذهب الليث لا أنه أفتاه به ، وحمله عليه علمه بمشقة المشي على الحالف أو خشية ارتكاب مفسدة أخرى ، فخلصه من ذلك ثم هدده بما يقتضي تحرزه من العادة . قلت : وربما كان ابن القاسم يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة ، وأما بالتشهي فلا . قال : وكانت هذه الوقائع تتفق نوادر ، وأما الآن فقد ساءت القصود والظنون وكثر الفجور وتغير إلى فتون ، فليس إلا إلجام العوام عن الإقدام على الرخص ألبتة . .

التالي السابق


الخدمات العلمية