صفحة جزء
[ ص: 69 ] النظر واجب شرعا . قال ابن القشيري : بالإجماع ; لأن الإجماع قام على وجوب معرفة الله ، ولا تحصل إلا بالنظر ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الأصح : أن النظر لا يجب على المكلفين إلا أن يكونوا شاكين فيما يجب اعتقاده فيلزمهم البحث عنه ، والنظر فيه إلى أن يعتقدوه ، أو يعرفوه . قال : ومعرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وما يمتنع عليه يتعلق بالخاصة ، وهم قائمون به عن العامة لا في تعريف ذلك لهم ومن المشقة الظاهرة ، وإنما هم مكلفون باعتقاده ، وقال بعض نبلاء المتأخرين : هذا الذي قالوه من وجوب النظر مبني على أن كل إنسان ابتداء غير عارف بالله حتى ينظر ، ويستدل ، فيكون النظر أول الطاعات وهذا خلاف ما عليه السلف وجمهور أهل العلم ، بل الأمر بالعكس ، فإنه لا يوجد قط إنسان إلا وهو يعرف ربه عز وجل ، ولا يعرف له حال لم يكن فيها مقرا حتى ينظر ويستدل . اللهم إلا من عرض له ما أفسد فطرته ابتداء ، فيحتاج معه إلى النظر . نعم النظر الصحيح يقوي المعرفة ، ويثبتها فإن المعارف تزيد وتنقص على الأصح . قلت : وهذا جموح إلى أن المعرفة ضرورية لا نظرية ، والصحيح : [ ص: 70 ] الأول ، إذ لو كانت ضرورية لكان التكليف بها محالا ، ونحن مكلفون بمعرفته . قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } .

واعلم أنهم اختلفوا في الواجب الأول تفريقا على القول بوجوب معرفة الله تعالى على بضعة عشر قولا . أحدها : أن أول الواجبات العلم بالله ، وهو المنقول عن الشيخ أبي الحسن . والثاني : أنه النظر المؤدي إلى العلم بحدوث العالم ، ومعرفة الصانع ، وهو المنسوب إلى الأستاذ أبي إسحاق . والثالث : القصد إلى النظر الصحيح ، وهو اختيار الإمام في الإرشاد " . والرابع : أنه يجب الإيمان بالله ورسوله ، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى ذلك ، وهو اختيار أصحاب الحديث . والخامس : قول أبي هاشم الشك ، ونقل عن ابن فورك ; لامتناع النظر من العالم ، فإن الحاصل لا يتعلق به طلب ولا يمتنع من الشاك . وزيفه القاضي بأنه لا يمتنع في العقل الهجوم على النظر من غير سبق تردد . والسادس : الإقرار بالله ورسوله . والسابع : النطق بالشهادتين . والثامن : قبول الإسلام والعزم على العمل ، ثم النظر بعد القبول . [ ص: 71 ] والتاسع : اعتقاد وجوب التقليد ، والعاشر : التقليد . والحادي عشر : النظر ولا يجب إلا عند الشك مما يجب اعتقاده ، فيلزم البحث عنه حتى يعتقده . وهذه الأقوال ربما تتداخل وتختلف في العبارة .

وقال الرازي في التحصيل " الخلاف لفظي ، وذلك ; لأنه إن أريد بالواجب الواجب بالقصد الأول فلا شك في أنه المعرفة عند من يجعلها مقدورة والنظر عند من لا يجعلها مقدورة . وإن أريد من الواجب كيف كان ، فلا شك أنه القصد . قلت : بل معنوي تظهر فائدته في التعصية بترك النظر على من أوجبه دون من لا يوجبه وقال صاحب المواقف " إن قلنا : الواجب النظر فمن أمكنه زمان يسع النظر التام ، ولم ينظر فهو عاص ، ومن لم يمكنه أصلا ، فهو كالصبي . ومن أمكنه ما يسع لبعض النظر دون تمامه ففيه احتمال ، والأظهر : عصيانه كالمرأة تصبح طاهرة فتفطر ، ثم تحيض . فإنها عاصية ، وإن ظهر أنها لم يمكنها إتمام الصوم .

وقال ابن فورك : بسبب هذا الخلاف اختلافهم في المعرفة أهي ضرورية أو كسبية ؟ فمن قال : ضرورية قال : أول فرض الإقرار بالله ، ومن قال : كسبية قال : أول فرض النظر والاستدلال المؤديان إلى المعرفة ، وقال ابن السمعاني في القواطع " في أول الكلام على القياس : أنكر [ ص: 72 ] أهل الحديث ، وكثير من الفقهاء قول أهل الكلام : إن أول واجب النظر ، وقالوا : إن أول واجب معرفة الله على ما وردت به الأخبار . ولو قال الكافر : أمهلوني ; لأنظر فأبحث فإنه لا يمهل ، ولا ينظر ، ولكن يقال له : أسلم في الحال ، وإلا فأنت معروض على السيف . قال : ولا أعرف في ذلك خلافا بين الفقهاء ، وقد نص عليه ابن سريج : انتهى ، وهو عجيب ، فقد حكوا في كتاب الردة وجهين فيما إذا تعين قتل المرتد ، فقال : عرضت لي شبهة فأزيلوها ; لأعود إلى ما كنت عليه . هل يناظر لإزالتها ؟ فيه وجهان . وقال : القاضي أبو يعلى في المعتمد " : إذا ترك المكلف أول النظر فإنه يستحق العقاب عليه ، وعلى ترك ما بعده ، ويجوز أن يعاقب على ترك النظر الأول عقابا أعظم من عقاب ترك النظر الثاني : ويجوز أن يكون مثله خلافا للمعتزلة في قولهم : إنما يعاقب على ترك فعل الأول غير أن عقابه عظيم يجري مجرى العقاب على ترك كل النظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية