صفحة جزء
[ الشرط ] الثالث : البلوغ : فالصبي ليس مكلفا أصلا لقصور فهمه عن إدراك معاني الخطاب .

قال الإمام في الرسالة النظامية " : ومدرك شرطه الشرع ، ولو رددنا إلى العقل لم يستحل تكليف العاقل المميز من الصبيان . [ ص: 57 ]

وقال في باب الحجر من النهاية " : كأن الشرع لم يلزم الصبي قضايا التكليف لأمرين :

أحدهما : أنه من مظنة الغباوة وضعف العقل فلا يستقل بأعباء التكليف .

وثانيهما : أنه عرى عن البلية العظمى ، وهي الشهوة فربط الشرع التزام التكليف بأمد وتركيب الشهوة ، أما الأمد فيشير إلى التهذيب بالتجارب ، وأما تركيب الشهوة فإنه يعرض للبلايا العظام ، فرأى الشرع تثبيت التكليف معه زاجرا .

وقول الفقهاء : تجب الزكاة في مال الصبي مرادهم وجوب الأخذ من ماله لا خطاب الأداء .

ونقل ابن برهان أن الصبي مخاطب عند الفقهاء منا ومن الحنفية ، ولعل مراده خطاب الوضع .

وقال صاحب البيان " في الفقه من أصحابنا في باب كفارة القتل : الصبي والمجنون لا يدخلان في خطاب المواجهة ، كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } ويدخلان في خطاب الإلزام ، كقوله : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية } وقوله صلى الله عليه وسلم : { في كل أربعين شاة شاة } وذكر ابن كج نحوه . [ ص: 58 ]

وقال القاضي عبد الوهاب والطرطوشي : الصبي لا يدخل في الخطاب المقصود منه التكليف إلا أن يكون عاما بالإخبار لا وجوب لا ينافيه الصغر لحقوق الآدميين من الزكاة وأرش الجناية فيتعلق الوجوب بماله ، ويخاطب بذلك وليه . وكذلك العدة تدخل في حق الأطفال من النساء في قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } الآية .

وعن أبي العباس بن سريج أن الصلاة تجب على ابن العشر وجوب مثله وإن لم يأثم بتركها ، إذ لو لم تجب عليه لما ضرب عليها

وقال القاضي الروياني في البحر " قبيل باب اختلاف نية الإمام والمأموم : وأومأ الشافعي في الأم " إلى أنها تجب قبل بلوغه ، ولكن لا يعاقب على تركها عقوبة البالغ . ورأيت كثيرا من المشايخ مرتكبين هذا القول في المناظرة ، وليس بمذهب ، لأنه غير مكلف أصلا ، وإنما هذا قول أحمد في رواية أنها تجب عليه إذا بلغ عشرا . ا هـ .

وقد صرح في الرسالة " بأن الصلاة والصوم لا يجبان على الصبي والمجنون ، واستصوب الإمام في الأساليب " قول ابن سريج . قال : ومعناه أنه محمول عليها وملوم على تركها ، وما حكاه عن النص يمكن تأويله [ ص: 59 ] على أنه يجب عليه من جهة وليه ، لأنه يأمره بها والأمر للوجوب ، والذي يستدعي التكليف إنما هو أمر الله .

وأما أفهمية العقاب فهو الضرب على تركها .

وهذا كله في الوجوب . أما الإيجاب ودخوله في خطاب ما أوجبه الله تعالى فالذي يقتضيه كلام الأصوليين وغيرهم أن الصبي لا يدخل فيه ، وذكر الإمام أبو الحسين السبكي أن الصبي داخل في عموم نحو قوله : { وأقيموا الصلاة } فإن الخطاب لجميع المؤمنين والناس وهو منهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي { يا بني سم الله وكل مما يليك } قال : وعد الأصوليين ذلك في أمر التأديب لا يضرنا .

قال : والصبي مأمور بالصلاة أمر إيجاب ، والمراد بالإيجاب الأمر الجازم ، وهو موجود في الصبي لكن الوجوب تخلف عنه ، لعدم قبول المحل إن لم يكن مميزا بالأدلة . على أن الفهم شرط التكليف ، ولرفع القلم إن كان مميزا .

وإذا فسرنا الإيجاب بالأمر الجازم لم يمتنع تخلف الوجوب لمعنى التكليف عن الإيجاب بمعنى الجزم ، ولا نعني بالجازم المنع من هذه إنما الجزم صفة للطلب من حيث هو بالنسبة إلى رتبة ذلك الفعل ، فرتبة الفرض هي [ ص: 60 ] العليا ، لأنه لا رخصة فيها ، والمندوب فيه رخصة منحطة عن رتبة الواجب ، وكلاهما سواء بالنسبة إلى البالغ والصبي : والشخص الذي يتعلق به ذلك الأمر يعتبر فيه أمور إن وجدت ترتب مقتضاه كالوجوب المترتب على الإيجاب وإلا فلا . ومن تأمل هذا المعنى لم يستبعده في حق الصبي المميز الذي اقتضت رخصة الله رفع القلم عنه . انتهى .

وذكر البيهقي في المعرفة " في باب حج الصبي : قال الشافعي في القديم : وقد أوجب الله بعض الفرض على من لم يبلغ ، وذكر العدة وذكر ما يلزمه فيما استهلك من أمتعة الناس .

قال : وإنما معنى قول علي رضي الله عنه : رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم أو يبلغ المأثم فأما غيره فلا . ألا ترى أن عليا هو أعلم بمعنى ما روى ؟ كان يؤدي الزكاة عن أموال اليتامى الصغار .

قال البيهقي : وإنما نسب هذا الكلام إلى علي ، لأنه عنه يصح ، وقد رفعه بعض أهل الرواية من حديث علي ، ووقفه عليه أكثرهم . ا هـ .

وسلك القفال طريقا آخر في الإيجاب ، فقال : إن الصبي مأمور بالصلاة أمر إيجاب ، لأنه آكد بالعقوبة على تركها . [ ص: 61 ]

قال القاضي الحسين في الأسرار " : فقلت له : لم يأمر الله الصبي بالصلاة . قال : أمر الأولياء ليأمروه فهو كأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يلزم أمته . وفيما قاله القفال نظر ، فإن المخاطب الولي ، وفي أمر الأولياء بالضرب عند ترك الصلاة ما يصرح بنفي التكليف عنهم ، إذ لو كانوا مكلفين لم يختص ذلك بالولي كما بعد البلوغ ، وإنما هو ضرب استصلاح كالبهيمة .

وزعم الحليمي والبيهقي : أنه كان في صدر الإسلام الصبي مكلفا ، وهو من يمكن أن يولد له ، ثم اعتبر البلوغ بالسن ، وحملا عليه حديث : { رفع القلم عن الصبي } فإن الرفع يقتضي الوضع .

واختلف في البلوغ هل هو شرط عقلي للتكليف ، لأن الصبي مظنة العبادة أو شرعي ؟ على قولين . تنبيهان : التنبيه الأول : لا يخاطب الصبي بالإيجاب والتحريم

على المشهور في الصبي فلا يخاطب من الأحكام بالإيجاب والتحريم ، [ ص: 62 ] وهل انتفاء ذلك في حقه لعدم الحكم كما قبل الشرع أو حكم من الله تخفيفا عنه ؟ لم يتعرضوا لذلك ، وعليه ينبي ما سبق في معنى رفع القلم . وهل يخاطب بالندب والكراهة ؟ الجمهور على المنع خلافا للغزالي ، وهو مقتضى كلام أصحابنا في الفروع حيث قالوا : إنه مأمور من جهة الشرع بالندب ، ولهذا جعلوا له إنكار المنكر ويثاب عليه . التنبيه الثاني : إذا علقنا التكليف بالبلوغ ، فهل يصير مكلفا بمجرده أم لا بد من أن يمضي بعد البلوغ من الزمان ما يمكنه فيه التعريف والقبول ؟ فيه وجهان .

حكاهما الحارث المحاسبي في كتاب " فهم السنن " .

قال : وقولنا : إنه يصير مكلفا في الوقت إذا لم يكن فيه مانع ، فإذا انقضى وقت أدائه ولم يعلمه كان عاصيا بتركه العلم والعمل به .

التالي السابق


الخدمات العلمية