صفحة جزء
وقال الأستاذ أبو منصور : اختلفوا في إدراك علم المتشابه ، فقال كثير من أصحابنا المتكلمين والفقهاء كالحارث والقلانسي : إنه لا يعلم تأويله إلا [ ص: 192 ] الله ، ووقفوا على قوله { إلا الله } وذهب أبو الحسن الأشعري والمعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون في جملة الراسخين من يعلم المتشابه ، ووقفوا على قوله : { والراسخون في العلم } قال : والقول الأول أصح عندنا ، لأنه قول الصحابة ، مثل ابن عباس ، وابن مسعود وأبي بن كعب ، وهو اختيار أبي عبيد ، والأصمعي ، وأحمد بن يحيى النحوي ، وبه نقول .

قال : وتدخل الحروف المقطعة في أوائل السور في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله . وأقوال المتأولين لها متعارضة ليس بعضها أولى من بعض ا هـ .

وحكى الخلاف أيضا أستاذه الأستاذ أبو إسحاق ، ثم قال : ولا يجري هذا الخلاف في أحكام الشريعة ، إذ ليس شيء منها إلا وعرف بيانه وليس في السنة ما يشاكله . وما اختاره الأستاذ أبو منصور حكاه البغوي في تفسيره " عن الأكثرين من الصحابة والتابعين والنحويين وأيده بقراءة ابن مسعود : " إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به " .

وقال عمر بن عبد العزيز : انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به كل من عند ربنا .

قال البغوي : وهذا القول أحسن في العربية وأشبه بظاهر الآية . ا هـ ، وقطع به الزبيري من كبار أئمتنا في أول كتابه " المسكت " ، فقال : دلت الآية على أن من القرآن شيئا غيبه الله عن خلقه ليلزمهم النقص في أنفسهم ، لأنهم لا يبلغون من الأمر إلا ما قدر الله لهم ، وقد بين ذلك في كتابه ، فقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } انتهى . [ ص: 193 ]

ورجح الشيخ أبو إسحاق الشيرازي القول الثاني ، وقال : ليس في القرآن شيء استأثره الله بعلمه ، بل وقف العلماء عليه ، لأن الله تعالى أورد هذا مدحا للعلماء فلو كانوا لا يعرفون معناه لشاركوا العامة وبطل مدحهم وكذلك صححه سليم الرازي في " التقريب " واستدل بقوله تعالى : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } قال : فأخبر أن الكتاب كله فصلت آياته وبينت ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : { وبينهما متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس } فدل على أن القليل من الناس يعلمها وهم الراسخون ، وقال ابن الحاجب : والظاهر الوقف على { والراسخون في العلم } ، لأن الخطاب بما لا يفهم بعيد .

قلت : وحكاه القاضي أبو المعالي شيد له في كتاب " البرهان " عن أكثر القراء والنحاة ، واختاره .

قال : وهو مذهب ابن مسعود وأبي بن كعب ، وهذا عكس حكاية الأستاذ والبغوي لكن حكاه ابن السمعاني عن شرذمة قليلة قال : واختاره العيني قال : وقد كان يعتقد مذهب السنة لكنه سها في هذه المسألة قال : ولا غرو فلكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة . قال : وقد نقل عن مجاهد ، ولا أعلم تحققه .

وقال ابن برهان في كلامه على معاني الحروف : الوقف التام على قوله : " إلا الله " ثم ابتدأ بالراسخين ، وتوسط القفال الشاشي فقال في آخر كتابه في أصول الفقه : القولان محتملان ولا ينكر أن يكون في المتشابه ما لا يعلم ، ويكون الغرض منه الإيمان ، وأنه من عند الله . وقال الغزالي في المنخول : [ ص: 194 ] وقف أبو عبيدة على قوله : " إلا الله " ، وليس هذا من غرض الأصولي ، وغرضنا أن التشابه في الآيات المتضمنة للتكليف محال ، ويبين المقصود منه رسم المسألة في آية الاستواء

قال مالك : لما سئل عنه : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقال سفيان بن عيينة : يفهم منه ما يفهم من قوله : { ثم استوى إلى السماء } وقد تحزب الناس فيه ، فضل قوم أجروه على الظاهر ، وفاز من قطع بنفي الاستقرار ، وإن تردد في مجمله ورآه فلا يعاب عليه .

قال : وتكليف تعليم الأدلة على نفي الاستقرار لا نراه واجبا على الآحاد بل يجب على شخص في كل إقليم أن يقوم ليدفع البدع إذا ثارت . انتهى .

وقيل : الراسخون يعلمون على الجملة والله يعلم على التفصيل ، وبهذا يصح القولان جميعا ولا يتنافيان ، وهو الذي يعضده الدليل ، لأن الصحابة قد خاضوا في التأويل .

والمختار الوقف على { إلا الله } لوجوه .

أحدها : أنه قول الجمهور بل لم يذهب إلى الوقف على { والراسخون في العلم } إلا شرذمة قليلة من الناس كما قاله ابن السمعاني . [ ص: 195 ]

الثاني : أن " أما " في لغة العرب لتفصيل المجمل فلا بد أن يذكر في سياقه قسمان : إما لفظا ، وهو الأكثر وإما تقديرا ، وسببه إما الاستغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر ، كقوله تعالى : { فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين } ولم يذكر القسم الآخر لدلالة المذكور عليه ، فكأنه قال : وأما من لم يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يصلح أن يكون من المفلحين ، وإما بكلام يذكر بعدها في موضع ذلك كهذه الآية فإنه سبحانه قال : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } فهذا تمام القسم الأول المذكور في سياق " أما " فاقتضى وضع اللغة ذكر قسم آخر فكان تقديره ، وأما غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربهم ودل على ذلك قوله { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } أي من المحكم والمتشابه من عند الله ، والإيمان بهما واجب ، وكأنه قيل وأما الراسخون في العلم فيقولون ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا } .

الثالث : أنه الواو في قوله : " والراسخون " وإن احتملت أن تكون غير عاطفة غير أنها هاهنا استئنافية من وجوه :

أحدها : أنه لو أراد العطف ، لقال : " ويقولون آمنا به " عطفا ليقولون على يعلمون المضمر ، إذ التقدير ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يعملون ويقولون آمنا به ، فأما قولهم : إن " يقولون " جملة حالية مع إضمار فعلها العامل فيها ، فلو جاز هذا لجاز " عبد الله راكبا " بمعنى أقبل ، وهو ممتنع ، ولذلك لا يجوز ، والراسخون قائلون بتقدير يعلمونه قائلين . [ ص: 196 ]

الثاني : ما روى عبد الرزاق في تفسيره " عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقرؤها " وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به " فهذه القراءة مبينة إجمال الواو في الآية ، وأنها استئنافية لا عاطفة ، ثم إن كان ابن عباس سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فهي تفسير منه للآية ، وإن لم يكن فهو مرجح ، لأنها قول صحابي ، وتفسير الصحابي عند المحدثين في حكم المرفوع .

الثالث : في ترجيح كونها استئنافية أن بتقدير ذلك تكون الجملة حالا ، والحال فضلة خارجة عن ركن الجملة ، وكون الجملة ركنا أقوى من كونها فضلة ، وإذا دار أمر اللفظة بين أقوى الحالين وأضعفهما كان حمله على الأقوى أولى .

الوجه الرابع : أن الآية دلت على ذم مبتغي المتشابه ، إذ وصفوا بزيغ القلوب وابتغاء الفتنة ، وقد صرحت السنة بذمهم ففي الصحيحين مرفوعا : { إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم } .

الخامس : أن قوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } يدل على تفويض وتسليم لما لم يقفوا على حقيقة المراد به ، وهو من قبيل الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهله ، وهو ظاهر في التسليم لمراد الله ، وإن كان لا ينافي فهمهم المراد به .

واحتج من قال : إن الواو للعطف بأن تسميتهم الراسخين في العلم يقتضي علمهم بتأويل المتشابه وإلا لم يكن لهم فضيلة على غيرهم ، نعم من المتشابه ما يعلم الراسخون منه ، ومنه ما استأثر الله بعلمه كالروح ووقت الساعة . [ ص: 197 ]

وأجيب بأن المراد بالراسخين في العلم ، الراسخون في العلم بالله ومعرفته وأنه لا سبيل للوقوف على كنه ذاته وصفاته وأفعاله بغيره ، كما حكى عن الصديق أنه قال : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقد قيل :

حقيقة المرء ليس المرء يدركها فكيف كيفية الجبار في القدم



ثم قيل : النزاع في المسألة لفظي ، لأن من قال بأن الراسخ في العلم يعلم تأويله ، أراد به أنه يعلم ظاهرا لا حقيقة ، ومن قال لا يعلم به أنه لا يعلمه حقيقة وإنما ذلك إلى الله ، والحكمة في إنزال المتشابه ابتلاء العقلاء .

وقال السهيلي : اختلف الناس في الوقف عند قوله : { إلا الله } والمختار عند مذهب ثالث ، وهو قول ابن إسحاق أن الكلام تم عند قوله : { إلا الله } وقوله : { والراسخون } مبتدأ ولكن لا نقول : لا يعلمون تأويله بل يعلمونه برد المتشابه إلى المحكم ، وبالاستدلال على الخفي بالجلي ، وعلى المختلف فيه بالمتفق عليه ، فيتفق بذلك الحجة ، والله تعالى يعلم تأويله بالعلم القديم لا بتذكر ولا تفكر ولا دليل ، والراسخون يعلمونه بالتذكر والتدبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية