صفحة جزء
مسألة [ وضع اللفظ المشهور في معنى خفي جدا ]

منع الرازي أن يوضع اللفظ المشهور في معنى لمعنى خفي جدا ، فالغرض من هذه المسألة الرد على مثبتي الحال ، لأنهم يقولون : الحركة اسم لمعنى يجعل الاسم متحركا ، والمشهور نفس الانتقال لا معنى أوجب [ ص: 239 ] الانتقال ، وجوزه الأصفهاني فإن أسماء الله تعالى مشهورة ، وبإزائها معان دقيقة غامضة لا يفهمها إلا الخواص العارفون بالله ، وبأن الإنسان يدرك معاني لطيفة فيخترع لها ألفاظا بإزائها .

[ فائدة الوضع ]

الخامس : في فائدة الوضع ، والمعاني المفردة معلومة في الذهن قبل وضع اللفظ ، وفائدة وضع اللفظ تصورها عند التلفظ لتوقف فهم النسبة التركيبية عليه ، فإذن الفائدة الحاصلة من الألفاظ المفردة تصور معانيها وشعور الذهن بها لا معرفة معانيها ، فلا يلزم الدور ، وتصور النسبة موجود في الذهن قبل وجود اللفظ ، والفائدة الحاصلة باللفظ مع الحركات المخصوصة والتركيب المخصوص معرفتها واقعة أو وقعت أو ستقع ، فالموقوف عليها التصديق لا التصور فلا دور أيضا .

[ الواضع ]

السادس : في الواضع : وقد اختلف فيه على مذاهب :

أحدها : قول الشيخ أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه كابن فورك أنها توقيفية ، وأن الواضع هو الله تعالى وحده ، وأعلمها للخلق بالوحي إلى الأنبياء أو بخلق الأصوات في كل شيء أو بخلق علم ضروري لهم ، وحكاه ابن جني في الخصائص " عن أبي علي الفارسي ، وجزم به ابن فارس [ ص: 240 ]

والثاني : أنها إلهام من الله تعالى لبني آدم كأصوات الطيور والبهائم حيث كانت أمارات على إرادتها فيما بينها بإلهام الله تعالى ، حكاه صاحب الكبريت الأحمر " عن أبي علي الفارسي ، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في مستدركه " عن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا { قرآنا عربيا لقوم يعلمون } ثم قال : ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهاما } ثم قال : صحيح الإسناد ، وقال الذهبي في مختصره " : حقه أن يقول على شرط مسلم ، ولكن مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الغسيلي ، وكان ممن يسرق الحديث .

انتهى . والثالث : مذهب أبي هاشم وأتباعه أنها اصطلاحية على معنى أن واحدا من البشر أو جماعة وضعها وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كتعريف الوالدين لغتهما للأطفال ، وحكاه ابن جني في الخصائص " عن أكثر أهل النظر . [ ص: 241 ]

وقال إلكيا الطبري : معنى الاصطلاح أن يعرفهم الله مقاصد اللغات ، ثم يهجس في نفس واحد منهم أن ينصب أمارة على مقصوده ، فإذا نصبها وكررها واتصلت القرائن بها أفادت العلم ، كالصبي يتلقى من والده .

والقائلون بالتوقيف : يقولون لا بد وأن يلهموا الأمارات .

قال : ومن فهم المسألة وتصورها لا يحيل تصويرها ، نعم يستحيل تواطؤ العالمين على أمارة واحدة مع اختلاف الدواعي ، فإن عني بالاصطلاح هذا فمسلم ، وإن عني ما ذكرناه ، فلا ، وإذا تعارض الإمكانات توقف على السمع .

والرابع : أن بعضه من الله وبعضه من الناس ، ثم اختلفوا هل البداءة من الله والتتمة من الناس ؟ ونسبه القرطبي إلى الأستاذ ، وإما عكسه ، وقد ذهب إليه قوم فتصير المذاهب خمسة .

وقد اختلف في النقل عن الأستاذ ، فحكى الآمدي وابن الحاجب عنه أن القدر المحتاج إليه في التعريف توقيفي ، والباقي محتمل للتوقف وغيره ، وحكى في المحصول " عنه أن الباقي مصطلح وسبقه إلى حكايته أيضا أبو نصر بن القشيري ، والصواب عنه : الأول ، فقد رأيته في كتاب أصول الفقه " للأستاذ أبي إسحاق ، ونقله عن بعض المحققين من أصحابنا ، ثم قال : إنه الصحيح الذي لا يجوز غيره ، وعبارته : أنه لا بد من أن يعلمهم أو يخلق لهم علما بمقدار ما يفهم بعضهم من بعض لمعنى الاصطلاح والوقوف على التسمية ، فإذا عرفوه جاز أن يكون باقيه توقيفا منه لهم عليه ، وجاز أن يكون اصطلاحا فيهم ، ولا طريق بعده إلى معرفة ما كان منه فيه إلا بخبر نبي عنه . هذا لفظه ، وكذلك نقله عنه ابن برهان في الأوسط " ، والأستاذ أبو منصور البغدادي في كتابه . [ ص: 242 ]

الخامس : قول القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري وابن السمعاني وابن برهان وجمهور المحققين كما قاله في المحصول " التوقف ، بمعنى أن الجميع ممكن لتعارض الأدلة ، وأما تعيين المواقع من هذه الأقسام ، فليس فيه نص قاطع ، ومال إليه ابن جني في أواخر الأمر .

وقال الآمدي : والحق أنه كان المطلوب في هذه المسألة تعيين الواقع ، فالحق ما قاله الشيخ .

وقال ابن دقيق العيد : الواقف إن توقف عن القطع فلا بأس به ، وإن أراد التوقف عن الظن فظاهر الآية ينفيه .

وقال التلمساني في الكفاية " : قال المتأخرون من الفقهاء : هذا الخلاف إن كان في الجواز العقلي فهو ثابت بالنسبة إلى جميع المذاهب ، إذ لا يلزم منه محال أصلا ، وإن كان في الوقوع السمعي فباطل ، لأن الوقوع إنما يكون بالنقل ، ولم يوجد فيه خبر متواتر ، ولا برهان عقلي بنفي رجم الظنون بلا فائدة .

وحكى الأستاذ أبو منصور قولا آخر أن ما وقع التوقيف في الابتداء على لغة واحدة ، وما سواها من اللغات وقع التوقيف عليها بعد الطوفان من الله في أولاد نوح حتى تفرقوا في أقطار الأرض .

قال : وقد روي عن ابن عباس أن أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل ، وأراد بها عربية قريش التي نزل بها القرآن ، وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل عليه السلام . [ ص: 243 ]

وقال في شرح الأسماء " : قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين : إنها كلها توقيف من الله ، وقال أهل التحقيق من أصحابنا : لا بد من التوقيف في أصل لغة واحدة لاستحالة وقوع الاصطلاح على أول اللغات من غير معرفة من المصطلحين ، يعني ما اصطلحوا عليه ، وإذا حصل التوقيف على لغة واحدة جاز أن يكون ما بعدها من اللغات اصطلاحا ، وأن يكون توقيفا ، ولا يقطع بأحدهما إلا بدلالة .

قال : واختلفوا في لغة العرب ، فمن زعم أن اللغات كلها اصطلاح ، فكذا قوله في لغة العرب ، ومن قال بالتوقيف على اللغة الأولى وأجاز الاصطلاح فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب ، فمنهم من قال : هي أول اللغات وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو اصطلاحا ، واستدلوا بأن القرآن كلام الله وهو عربي ، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات وجودا ، ومنهم من قال : لغة العرب نوعان :

أحدهما : عربية حمير وهي التي تكلموا بها في عهد هود ومن قبله ، وبقي بعضها إلى وقتنا .

والثاني : العربية المحضة التي نزل بها القرآن ، وأول من أطلق لسانه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة محتملا أمرين : إما أن يكون اصطلاحا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة ، وإما أن يكون توقيفا من الله ، وهو الصواب . ا هـ . وحكى ابن جني في الخصائص " قولا آخر أن أصل اللغات إنما هو من الأصوات والأسماع ، كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء ونهيق الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونحوه ، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد .

قال : وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل . قال : وأبو الحسن الأخفش [ ص: 244 ] يذهب إلى أنها توفيقية ، لكنه لم يمنع القول بالاصطلاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية