صفحة جزء
قال أئمتنا : مراتب العلوم عشرة : الأولى : علم الإنسان بنفسه ، وصفاته وكلامه ، ولذاته . الثانية : العلم الضروري باستحالة المستحيلات ، وانحطت هذه عن الأولى للحاجة فيها إلى الفكر في ذوات المتضادات وتضادها . الثالثة : العلم بالمحسات وانحطت عن الثانية ، لتطرق الآفات إلى الحواس . الرابعة : العلم الحاصل عقب خبر التواتر ، وانحطت عما قبلها [ ص: 91 ] لإمكان . التواطؤ على المخبرين ، وأيضا لا بد من فكر . ولهذا قال الكعبي : إن العلم عقبه نظري . الخامسة : العلم بالحرف والصناعات ، وانحطت لما فيها من المعاناة والمقاسات وتوقع الغلطات . السادسة : العلم المستند إلى قرائن الأحوال ، كخجل الخجل ، وكوجل الوجل ، وغضب الغضبان ، وانحطت لتعارض الاحتمالات في محال الأحوال . السابعة : العلم الحاصل بالأدلة العقلية وانحطت ; لأن النظري منحط عن الضروري . الثامنة : العلم بجواز النبوات ، وجواز ورود الشرائع . التاسعة : العلم بالمعجزات إذا وقعت . العاشرة : العلم بوقوع السمعيات ومستندها الكتاب والسنة .

وهنا أمور : أحدها : العلم النظري ينضبط بالضابط سببه الذهن قبله ، والعلم العادي يخلي العكس لا ينضبط سببه حتى يحصل هو فإذا حصل علمنا أن سببه قد كمل ، ولو روجعنا في أول زمن كماله لم يكن لنا شعور به حالة العلم بالمتواترات ، فإن السامع لا يزال يترقى في الظنون ترقيا خفيا حتى ينتهي إلى عدد حصل عنده العلم في نفس الأمر ، ولو قيل له : أي عدد حصل [ ص: 92 ] لك عنده العلم ؟ لم يفطن لذلك .

وكذلك العلوم العادية بجملتها . وهذا يدل على أن من العلوم ما يقوم بالنفس ولا تشعر النفس به أول قيامه ، وهو من العجب . الثاني : أن هذه العلوم تتفاوت كما بينا ، ولا شك أن البديهيات والحسيات راجحة على النظريات ، وأما أن البديهيات تترجح على الحسيات أو العكس ، فمحل نظر . ويمكن أن يترجح بعض البديهيات على بعض ، وكذا الضروريات والنظريات ، فإن كل ما كان مقدماته أجلى وأقل كان راجحا على ما ليس كذلك ، ولهذا يجد الإنسان تفرقة بين علمه بأن الواحد نصف الاثنين ، وأن الكل أعظم من الجزء ، وبين علمه بثبوت الجوهر الفرد والخلاء وغيرهما من المسائل النظرية اليقينية مع أن كل واحد منهما يقينيا على اعتقاده . لا يقال : إنه وإن اعتقد ذلك في نفسه لكنه ليس كذلك في نفس الأمر ; لأنا نقول : يلزم مثله في كل نظري ، فلم يحصل الجزم بشيء منها . الثالث : قال الإمام في باب الأخبار من البرهان " : العلوم الحاصلة عن حكم العادات مبنية على قرائن الأحوال ، ولا تنضبط انضباط المحدودات ، وهذا كالعلم بخجل الخجل ، ووجل الوجل ، وغضب الغضبان ، فإذا وجدت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد ، ولو رام واجدها ضبطها لم يقدر [ ص: 93 ] ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه : من شاهد رضيعا قد التقم ثدي امرأة ، ورأى منه آثار الامتصاص ، وحركة الغلصمة لم يسترب في وصول اللبن إلى الجوف ، وحل له أن يشهد شهادة تامة بالرضاع . ولو أنه لم يشهد بالرضاع ، ولكن شهد بالقرائن الحاملة له على الشهادة لم يثبت الرضاع . وذلك لأن ما يسمعه القاضي وصفا لا يبلغ مبلغ العيان ، والذي يفضي بالعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين ، ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا : افصل بين حمرة وجنة الغضبان وبين حمرة الموعوك لم تساعده عبارة ، فإن القرائن لا يبلغها غايات العبارات ، ومن ثم لم يتوقف حصول العلم بخبر التواتر على عدد محصور ، ولكن إذا ثبت قرائن الصدق ثبت العلم به .

التالي السابق


الخدمات العلمية