صفحة جزء
واعلم أنه مما يكثر السؤال عنه الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص واسم الجنس ، وهو من نفائس المباحث .

قال القرافي : وكان الخسرو شاه يقرره ، ولم أسمعه من أحد إلا منه ، وما كان في البلاد المصرية من يعرفه ، وهو أن الوضع فرع التصور [ ص: 293 ] فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها ، فتلك الصورة الثابتة في ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد ، فإن هذه الصورة واقعة في هذا الزمان ، ومثلها يقع في زمان آخر ، وفي ذهن شخص آخر ، والجمع مشترك في مطلق صورة الأسد ، فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد ، فإن وقع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس ، وهي من حيث عمومها وخصوصها تطلق على كل أسد في العالم ، لأنا إنما أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتطلق على الجميع ، فلا جرم يطلق لفظ الأسد وأسامة على جميع الأسود لوجود الشركة فيها كلها فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية .

والفرق بين علم الجنس وعلم الشخص : أن علم الشخص موضوع للحقيقة بقيد التشخص الخارجي ، وعلم الجنس موضوع للماهية بقيد التشخص الذهني . ا هـ .

وقال ابن إياز ردا على من فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس : أن علم الجنس وهو أسامة موضوع للحقيقة الذهنية من غير نظر للأفراد ، وعكسه اسم الجنس .

قال : فيلزم أن أسامة إذا استعمل في الأفراد الخارجية أن يكون مجازا ، وليس كذلك بل هو حقيقة .

وقال الشيخ أثير الدين في الرد على من فرق بينهما : الوضع مسبوق بالتصور ، فإن كان للأفراد الخارجية فيلزم وضعه من غير قصد ، وهو باطل . [ ص: 294 ]

وقال صاحب البسيط من النحويين : إنما حكم لعلم الجنس بالعلمية ، لأنهم عاملوه معاملة الأعلام في أربعة أمور : دخول " أل " عليها ، وإضافتها ، وفي نصب الحال عنها نحو هذا أسامة مقبلا ، وامتناع صرفها عند وجود علتين فيها ، وفي تحقق علميتها أربعة أقوال : أحدها لأبي سعيد ، وبه قال ابن بابشاذ وابن يعيش أنه موضوع على الجنس بأسره بمنزلة تعريف الجنس باللام في نحو الدينار والدرهم ، ولهذا يقال : ثعالة يفر من أسامة ، أي أشخاص هذا الجنس يفر من أشخاص هذا الجنس ، وإنما لم يحتاجوا في هذا النوع إلى تعيين الشخص كغيرها من الأعلام ، لأنها لا تحتاج إلى تعيين أفرادها .

قال ابن يعيش : وتعريفها لفظي ، وهي في المعنى نكرات ، لأن اللفظ وإن أطلق على الجنس فقد يطلق على أفراده ، ولا يخص شخصا بعينه ، وعلى هذا فيخرج عن حد العلم .

والثاني : لابن الحاجب أنها موضوعة للحقائق المتحدة في الذهن بمنزلة التعريف باللام للمعهود الذهني نحو أكلت الخبز وشربت الماء ، فإذا أطلق على الواحد في الوجود فلا بد من القصد إلى الحقيقة ، فالتعدد باعتبار الوجود لا باعتبار الوضع ، والفرق بين أسد وأسامة أن أسدا موضوع لكل فرد من أفراد النوع على طريق البدل ، فالتعدد فيه من أصل الوضع ، وأما أسامة فإنه لزم من إطلاقه على الواحد في الوجود التعدد ، فالتعدد جاء فيه ضمنا لا مقصودا بالوضع . [ ص: 295 ]

والثالث : أنه لما لم يتعلق بوضعه غرض صحيح بل الواحد من حفاة العرب إذا وقع طرفه على وحش عجيب ، أو طير غريب أطلق عليه اسما يشتقه من خلقته أو فعله أو وصفه ، فإذا رآه مرة أخرى أجرى عليه ذلك الاسم باعتبار شخصه ، ولا يتوقف على تصور أن هذا الموجود هو المسمى أولا أو غيره ، فصارت مشخصات كل نوع مندرجة تحت الأول .

والرابع : قلته أنا : أن لفظ علم الجنس موضوع للقدر المشترك بين الحقيقة الذهنية والوجودية ، فإن لفظ أسامة يدل على الحيوان المفترس عريض الأعالي ، فالافتراس وعرض الأعالي مشترك بين الذهني والوجودي ، فإذا أطلق على الواحد في الوجود ، فقد أطلق على ما وضع له لوجود القدر المشترك ، ويلزم من إخراجه إلى الوجود التعدد ، فيكون التعدد من اللوازم لا مقصودا بالوضع بخلاف أسد ، فإن تعدده مقصود بالوضع . فإذا تقرر ذلك فالفرق بين علم الجنس واسم الجنس بأمور :

أحدها : امتناع دخول " اللام " على أحدهما وجوازه في الآخر ، ولذلك كان ابن لبون وابن مخاض اسم جنس بدليل دخول " لام " التعريف عليهما .

الثاني : امتناع الصرف يدل على العلمية .

الثالث : نصب الحال عنها

الرابع : نص أهل اللغة على ذلك . وأما الإضافة فلا دليل فيها ، لأن الأعلام جاءت مضافة . ا هـ .

وأحسن ما قيل فيه : أن اللفظ إن كان موضوعا بإزاء الحقيقة فلا بد أن يتصور الحقيقة ، ويحضر فرد من أفرادها في الذهن متشخصا ، فالواضع تارة يضع للحقيقة لا بقيد التشخص الخاص في ذهنه ، فيكون ذلك اسم جنس كمن حضر في ذهنه حقيقة الأسد ، وتشخص في ذهنه فرد من [ ص: 296 ] أفراده ، فوضع للحقيقة لا لذلك الفرد ، وتارة يضع للتشخص الخاص في ذهنه بقيد ذلك الشخص الذي هو حاصل في أفراد كثيرة خارجية ، فهذا علم الجنس ، وتارة يضع للشخص الخارجي ، فهو علم الشخص ، وسمي هذا علما ، لأن الوضع فيه للشخص ، ليكون التشخيص للوضع الذهني والخارجي .

وذهب الزمخشري إلى أن علم الجنس هو الذي لوحظ فيه خاصة من خواص ذلك الجنس ، وضعف بأن العلم هو الموضوع للحقيقة بقيد التشخص الذهني ، وليس هذا من باب الاصطلاح حتى لا يمنع ، لأنا قدمنا أن العلم حقيقته الوضع للتشخص الذهني والخارجي ، فاعتبار الوصف لا مدخل له فيه ، فهذا هو الفرق الصحيح بين الثلاثة . وعبارة سيبويه تعطي ذلك حيث قال : هذا باب من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص شائعا في أمته ليس واحد منها به من الآخر ، نحو قولك للأسد أبو الحارث وأسامة ، وللثعلب ثعالة وأبو الحصين ، وذكر أمثلة . وفرق بين أسامة وزيد بأن زيدا قد عرفه المخاطب بحليته أو أنه قد بلغه ، وإذا قال أسامة ، فإنما يريد هذا الأسد ولا يريد أن يشير إلى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيدا ، ولكنه أراد ب " هذا " الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم ، فهذا الكلام منه يعطي ما قلنا ، وانظر قوله : يكون فيه الاسم خاصا شائعا ، فجعله خاصا باعتبار الصورة المشخصة الموضوع وشائعا باعتبار الصورة الخارجية ، وإلى قوله : يريد هذا الأسد ولا يريد إلى شيء قد عرفته ، وبهذا الفرق يتضح أن علم الجنس معرفة لفظا ومعنى ، وأن قول ابن مالك : إنه معرفة لفظا ونكرة معنى وأنه في أسامة في السباع كأسد ممنوع ، ووافقه أبو حيان على أن أسامة نكرة في المعنى ، وفيه ما تقدم ، فإذا ثبت ، هذا فلا إشكال في أن علم الجنس كلي ، لأنه يشترك في مفهومه كثيرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية