صفحة جزء
[ ص: 5 ] قال ابن فارس : الحقيقة من قولنا : حق الشيء إذا وجب ، واشتقاقه من الشيء المحق وهو المحكم . تقول : ثوب محقق النسج ، أي : محكم ، وقال غيره : اشتقاقها من الاستحقاق لا من الحق ، وإلا لكان المجاز باطلا . وتطلق الحقيقة ويراد بها ذات الشيء وماهيته ، كما يقال حقيقة العالم : من قام به العلم وحقيقة الجوهر : المتميز ، وهذا محل نظر المتكلمين . تطلق بمعنى اليقين ، وفي الحديث : { لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان } وليس غرضنا هنا . وتطلق ويراد بها المستعمل في أصل ما وضعت له في اللغة ، وهو مرادنا ، وقد منع قوم أن يكون قولنا : حقيقة ينطبق على ما عدا هذا ، [ ص: 6 ] لأن معنى الحقيقة لا يصح إلا فيما يصح فيه المجاز ، حكاه القاضي عبد الوهاب ، وزيفه بأن اللغة لا تمنع ، وقد بينا للحقيقة فيها استعمالات ، ولأن من الكلام ما هو حقيقة وإن لم يصح المجاز فيه . فقولنا : المستعمل خرج به اللفظ قبل الاستعمال ، فليس بحقيقة ولا مجاز وقولنا : ما وضع له أخرج المجاز إن قلنا : إنه ليس بموضوع ، فإن قلنا : موضوع قلنا : وضع أولا . وهل إطلاقها بهذا الاصطلاح حقيقة أو مجاز ؟ اختلفوا فيه ، فذهب الإمام وأتباعه إلى أنه مجاز ; لأن الحقيقة " فعيلة " من الحق إما بمعنى الفاعل أي : الثابت ، ولهذا دخلت التاء ، وإما بمعنى المفعول أي : المثبت ، وعلى هذا فدخول التاء فيها لنقل الاسم من الوصفية إلى الاسمية المحضة . والحق : أنها إن كانت بمعنى الفاعل فهي على بابها للتأنيث ، وإن كانت بمعنى المفعول ، فيحتمل أنها للتأنيث والتاء لنقل الاسمية . وقال السكاكي : هي عندي للتأنيث في الوجهين لتقدير لفظ الحقيقة قبل الاسمية صفة مؤنث غير مجراة على الموصوف وهو الكلمة ، ثم نقلت إلى الاعتقاد المطابق ، ثم من الاعتقاد إلى اللفظ المستعمل فيما وضع له تحقيقا لذلك الوضع ، فظهر أن إطلاق لفظ الحقيقة على هذا المعنى المعروف ليس حقيقة لغوية ، بل مجازا واقعا في المرتبة الثالثة . والذي يقتضيه إطلاق أكثر الأصوليين أنه حقيقة ، وهو الذي يظهر [ ص: 7 ] ترجيحه بهذا المعنى ، ويدل عليه كلام أهل اللغة . قال ابن سيده في " المحكم " : الحقيقة في اللغة : ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه ، والمجاز بخلاف ذلك ، وحكاه في " المحصول " عن ابن جني ، وقال : إنه غير جامع لخروج الشرعية والعرفية ، وهو غير وارد ; لأن كلامه كالمصرح بأن المراد اللغوية فقط ، والظاهر أن مراده لفظ الحقيقة لا المعنى ، ثم تعداد هذه المراتب وجعله مجازا في المرتبة الثالثة لا ضرورة إليه . ولم لا يكون نقل من أول وهلة إلى المقصود ، والعلاقة موجودة ؟ ثم إن دعوى المجاز في لفظي الحقيقة والمجاز إنما هو بحسب الوضع اللغوي ، ولا إشكال في أنها صفتان عرفيتان

التالي السابق


الخدمات العلمية