صفحة جزء
[ أقسام الحقيقة ] وتنقسم الحقيقة إلى لغوية وعرفية وشرعية ; لأن الوضع المعتبر فيه إما وضع اللغة ، وهي اللغوية كالأسد للحيوان المفترس أولا ، وهو إما وضع الشارع ، وهي الشرعية كالصلاة ، للأركان وقد كانت في اللغة للدعاء أولا ، وهي العرفية المنقولة عن موضعها الأصلي إلى غيره بعرف الاستعمال ، ولتتنبه لأمرين : أحدهما : أن اللغوية أصل الكل ، فالعرف نقلها عن اللغة إلى العرف ، والشرع نقلها عن اللغة والعرف . الثاني : أن الوضع في اللغوية غير الوضع في الشرعية والعرفية ، فإنه في اللغة تعليق اللفظ بإزاء معنى لم يعرف به غير ذلك الوضع .

وأما في الشرعية والعرفية فبمعنى غلبة الاستعمال دون المعنى السابق ، فإنه لم ينقل [ ص: 9 ] عن الشارع أنه وضع لفظ الصلاة والصوم بإزاء معانيها الشرعية ، بل غلب استعمال الشارع لهذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني حيث صارت الحقيقة اللغوية مهجورة ، وكذلك العرف ، فإن أهله لم يضعوا لفظ القارورة مثلا للظرف من الزجاج على جهة الاصطلاح ، كما أن الشرع لم يضع لفظ الزكاة لقطع طائفة من المال للفقراء . بل صارت هذه الألفاظ شرعية وعرفية بكثرة الاستعمال دون أن يسبقه تعريف بتواضع الاسم ، ومن هاهنا منع بعضهم إدخال الأنواع الثلاثة في الحد لاختلاف معنى الوضع فيها فإن الاصطلاح غير غلبة الاستعمال ، فإن خصصنا الوضع بالاصطلاح خرجت الحقيقة الشرعية والعرفية ، وإن لم نخصه لزم أن يكون مشتركا ، والحدود تصان عنه ، فينبغي إفرادها بحد كأن يقال : المستعمل فيما غلب استعماله في الاصطلاح الذي يقع به التخاطب ، لكن هذه مضايقة لا طائل تحتها بل لقائل أن يقول : إن للشرع وضعا كاللغة فإن الوضع تعليق لفظ بإزاء معنى ، وهو يشملهما لكن يختلفان في سبب العلم بذلك ، ففي اللغة إعلام الغير بأنه وضع لذلك ، وفي الشرع بكثرة الاستعمال ، ليرفع الوضع السابق إن كان .

وإذا علمت هذا فلنتكلم على هذه الأقسام فنقول : أما اللغوية فهي التي عليها جل الشريعة عند قوم ، وهم المثبتون للنقل الشرعي والعرفي ، أو كلها عند آخرين ، وهم النافون له ، فيقولون : إن جميع ما ورد في الشرع بحروف اللغة ونظمها ، والمقصود به من نطق الشرع هو المقصود عندهم ، ثم لا خلاف في إمكانها ووقوعها في المعنى الواحد . وأما المفيد للشيء وخلافه على طريق الاشتراك فمنعه قوم ، وقد سبقت في مباحث الاشتراك . [ ص: 10 ] وقال بعضهم : يمكن النزاع في الحقائق اللغوية بأن يقال : إنها انتسخت ، وصارت الألفاظ بأسرها شرعية أو عرفية لكثرة النقل والتغيير في انتقالات الشرع والعرف ، وعلى هذا يجب تتبع الحقائق الشرعية إن وجدناها في ألفاظ الخطاب ، فإن لم نجدها فالحقائق العرفية . وأما ما ينقل من واضعي اللغات فلا يجوز العمل به ; لأنها تغيرت وانتسخت فلا يخاطبنا الشرع بها ، والجواب : هذا ممنوع بإجماع الأمة على الوقوف لنقل اللغة في مدلولات الألفاظ الشرعية كما في الأمر بالوضوء عند الأكل ، وبالصلاة لمن دعي إلى وليمة ، وهو صائم وغير ذلك .

وأما العرفية فتنقسم إلى خاصة وعامة ، فإن كان الناقل طائفة مخصوصة سميت خاصة ، وإن كان عامة الناس سميت عامة . وقد أوضح معنى العرفية القاضي أبو بكر ، فقال في " التقريب " : معنى وصف الاسم بأنه عرفي أن المفهوم من إطلاقه بغلبة الاستعمال في بعض ما وضع له أو غيره مجازا لا حقيقة ، والدليل على أن هذا المعنى عرفي : أنه لا يجوز أن يكون معناه أنه ابتدئ وضعه لما جرى عليه ; لأن ذلك يقتضي أن يكون جميع الأسماء عرفية ، ولا يجوز أن يكون معناه أنها أسماء مجردة مبتدأة ; لأن ذلك سبيل سائر الأسماء اللغوية ، ولا يصح أن يكون معناه أنها أسماء ابتدأها ووضعها غير أهل اللغة من العلماء بضروب العلامات ، ولا يمكن أن يكون أنه نقل عن معناه إلى غيره ; لأن ذلك هو المجاز ، وتسميته مجازا أحق وأولى . انتهى . قال القاضي عبد الوهاب : والاعتبارات في العرف إنما هو بعرف من [ ص: 11 ] هو له دون من ليس من أهل ذلك العرف ; لأنا قد قلنا : إن العرف بغلبة الاستعمال يقوم مقام ابتداء المواضعة فإذا اختص ابتداء المواضعة بأهلها فكذلك العرف . ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية