صفحة جزء
[ المجاز التركيبي عقلي عند الجمهور ] الرابعة : إذا أثبتنا المجاز التركيبي ، فهل هو لغوي أم عقلي ؟ والجمهور على أنه عقلي ولم يسموه مجازا لكونه وضع لمعنى ، ثم استعمل في غيره ، لئلا يلزم أن يكون له جهتان جهة الحقيقة وجهة المجاز كما في المجاز المفرد ، وذلك ; لأن صيغ الأفعال فيه مستعملة في موضوعاتها اللغوية ، وكذا صيغ الفاعل فلا مجاز فيه إلا في نسبة تلك الأفعال إلى أولئك الفاعلين ، وهو أمر عقلي لا وضعي ، وكذلك لا نسميه مجازا لغويا لعدم رجوعه إلى الوضع بخلاف المجاز في المفرد فإنه عبارة عن استعمال اللفظ في غير موضوعه فهو مستلزم للجهتين جهة الحقيقة وجهة المجاز ، وأيضا فإن واضع اللغة لا صنع له بعد وضع المفرد لا يسند إليه ، بل يكل ذلك إلى خبرة المتكلم ، ألا ترى أن إسناد الوشي إلى الربيع لا القادر في قولك : خيط أحسن من وشي الربيع ليس مستفادا من اللغة ؟ وقيل : بل هو لغوي ; لأن واضع اللغة وضع المفرد ليركبه مع ما يناسبه ، كما صرح به الإمام الرازي وغيره ، والمناسبة معلومة بطرقها ، وحجر أيضا في التقديم والتأخير ، والحذف والذكر ، إلى غير ذلك فهو مجاز عقلي لغوي . واعلم أن هذا الخلاف يتوقف على أمرين : أحدهما : أن العرب هل وضعت المركبات أو لا ؟ وفيه خلاف .

[ ص: 96 ] الثاني : في مدلول نسبة الأفعال إلى فاعلها ، فنقول : الفعل تارة يراد به وقوعه من فاعله حقيقة ، أو قدرة الفاعل ، كقولنا : خلق الله زيدا ، وكذلك كل فعل نسب إلى الله ، وتارة يراد به وقوعه من فاعله حكما كقولنا : قام زيد ، فإن الله - تعالى - هو الفاعل ، ولكن القيام منسوب فعله لزيد حكما ، وتارة يراد بمجرد اتصافه به كقولنا : مرض زيد ونحوه مما لا تسبب فيه ، كبرد الماء ، وكل هذه الأقسام الإسناد فيها حقيقي ; لأن العرب وضعت لها ، ولم تقتصر على الإسناد إلى الموجد ، والإسناد لغير الموجد لا ينافي الحقيقة ; إذ لا معنى للحقيقة إلا ما وضعت العرب بإزائه ، والعرب تقصد النسبة لهذه الأمور حقيقة بدليل تبادر الذهن إلى الإسناد من غير الموجد ، إنما المجاز التركيبي النسبة لغير هذه الأقسام ، ومعنى نسبة الشيء لغير فاعله لا حقيقة ولا حكما ، ولا بمعنى اتصافه به بالكلية كأنبت الربيع البقل ، فإن الربيع ليس بمنبت حقيقة ولا حكما ، ولا متصف بذلك في وضع العرب ، إذا تقرر هذا فنقول : إن فرعنا على مذهب الجمهور من أن المركبات موضوعة فالمجاز في التركيب لغوي ; لأنه إسناد لغير موضوعه ، وإن قلنا : ليست موضوعة فالإسناد كله عقلي لا مدخل للغة فيه ، فمن هنا جاء الخلاف في أن المجاز التركيبي عقلي لا لغوي .

التالي السابق


الخدمات العلمية