صفحة جزء
[ أو ] لأحد الشيئين أو الأشياء شاكا كان أو إبهاما تخييرا كان أو إباحة

[ ص: 174 ] فإن كانا مفردين أفادا ثبوت الحكم لأحدهما ، وإن كانا جملتين أفاد حصول مضمون أحدهما ، ولذلك يفرد ضميرهما نحو زيد أو عمرو قام ، ولا تقل : قاما . بخلاف الواو فتقول : زيد وعمرو قاما ، ولا تقل : قام . وحقيقتها أنها تفرد شيئا من شيء ، ووجوه الإفراد تختلف فتتقارب تارة ، وتتباعد أخرى حتى توهم أنها قد تضادت ، وهي في ذلك ترجع إلى الأصل الذي وضعت له ، وقد وضعت للخبر والطلب ، فأما في الخبر فمعناها الأصلي قيام الشك ، فقولك : زيد أو عمرو قام ، أصله أن أحدهما قام . ثم أكثر استعماله أن يكون المتكلم شاكا لا يدري أيهما القائم ، فظاهر الكلام أن يحمله السامع على جهل المتكلم ، وقد يجوز أن يكون المتكلم غير شاك ، ولكنه أبهم على السامع لغرض . ويسمى الأول الشك ، والثاني التشكيك والإبهام أيضا ، ومنه قوله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } . وكذلك جاءت في خبر الله ، نحو { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } { فكان قاب قوسين أو أدنى } فإن قلت : كيف يقع الإبهام من الله ، وإنما القصد منه البيان ؟ قلت : إنما خوطبوا على قدر ما يجري في كلامهم ، ولعل الإبهام على السامع لعجزه عن بلوغ حقائق الأشياء ، ومن ثم قيل : القصد من الإبهام في الخبر تهويل الأمر على المخاطب من إطلاقه على حقيقته ، وحملها على ذلك [ ص: 175 ] المعنى هو من صناعة الحذاق ، وذلك أولى من إخراجها إلى معنى الواو .

وبالجملة ، الإخبار بالمبهم لا يخلو ، عن غرض إلا أن المتبادر منه الشك ، فمن هنا ذهب قوم إلى أن " أو " للشك .

والتحقيق : أنه لا خلاف ; لأنهم لم يريدوا إلا تبادر الذهن إليه عند الإطلاق ، وما ذكروه من أن وضع الكلام للإبهام على تقدير تمامه إنما يدل على أن " أو " لم توضع للتشكيك ، وإلا فالشك أيضا مبني يقصد إبهامه بأن يقصد المتكلم إخبار المخاطب بأنه شاك في تعيين أحد الأمرين بخلاف الإنشاء ، فإنه لا يحتمل الشك ولا التشكيك ; لأنه إثبات الكلام ابتداء . وقد يحسن دخول " أو " بين أشياء يتناولها الفعل في أوقات مختلفة فيراد بالخبر إفراد كل واحدة منها في وقته ، كقولك : إذا قيل لك : ما كنت تأكل من الفاكهة ؟ قلت : آكل التين أو العنب أو الرمان . أي إفراد هذا مرة وهذا مرة ، ولم ترد الشك ولا الإبهام هذا شأنها في الخبر . وأما في الطلب أعني الأمر والنهي فتقع على وجهين كلاهما للإفراد : أحدهما : أن يكون له أحد الأمرين إذا اختاره ولا يتجاوزه ، والآخر محظور عليه .

والثاني : يكون اختيار كل منهما غير محظور عليه الآخر ، وسموا الأول تخييرا والثاني إباحة وفرقوا بينهما بأنه إن كان بين شيئين يمتنع الجمع بينهما فهي للتخيير وإلا فللإباحة .

فالأول : نحو خذ من مالي درهما أو دينارا حيث يكون مقصوده أن [ ص: 176 ] يأخذوا واحدا فقط ، ولا يجمع بينهما ، أو لما يقتضيه حظر مال غيره عنه إلا بسبب تصحح به إباحته له ، والسبب هنا تخيير المأمور باجتنابه ، فقد أباحه بالتخيير أحدهما لا بعينه . فأيهما اختار كان هو المباح ، ويبقى الآخر على حظره ، وكذلك كل سمكا أو لبنا لدلالة القرينة على المنع من الجمع . والثاني : نحو جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي : جالس هذا الجنس من العلماء فله الجمع بينهما ، وكذلك تعلم فقها أو نحوا . قال سيبويه : تقول : جالس الحسن أو ابن سيرين أو زيدا ، كأنك قلت : جالس أحد هؤلاء ، ولم ترد إنسانا بعينه ، ففي هذا دليل على أن كلهم أهل أن يجالس ، كأنك قلت : جالس هذا الضرب من الناس . وتقول : كل خبزا أو لحما أو تمرا فكأنك قلت : كل أحد هذه الأشياء فهذا بمنزلة الذي قبله . انتهى . واعلم أن " أو " من حيث هي تدل على الشيئين أو الأشياء مثل " إما " . وينفصل التخيير عن الإباحة بالقرينة وسياق الكلام ، وهي تساوي " إما " في التخيير التي يسميها المنطقيون : منفصلة مانعة الجمع ، وفي الإباحة : منفصلة مانعة الخلو . وما ذكروه من أن الشيئين إن كانا أصلهما على المنع فللتخيير ، وإلا فللإباحة إنما أخذوه من أمثلتهم . حتى مثلوا الأول ب خذ درهما أو دينارا ، والثاني يجالس الحسن أو ابن سيرين . وليس هذا بمطرد فقد تقول له : جالس أحدهما وتقصد المنع من الجمع .

وقد يأذن له في أخذ شيء من ماله ويرضى بالجمع . وإنما المعتمد في الفرق القرائن كما ذكرنا ولذلك أجمعوا على أن " أو " [ ص: 177 ] في آية الكفارة للتخيير ، ويسمونها الواجب المخير مع أنه لا يمتنع الجمع ، وبهذا يندفع السؤال بالآية عندهم ، ولا حاجة للتكلف عن ذلك . والتحقيق : أن التخيير والإباحة قسم واحد ; لأن حقيقة الإباحة هي التخيير ، وإنما امتنع الجمع في الدينار والدرهم للقرينة العرفية لا لمدلول اللفظ ، كما أن الجمع بين صحبة العلماء والزهاد وصف كمال لا نقص فيه . قال ابن الخشاب : معناها الأصلي في الطلب التخيير ، وأما الإباحة فطارئة عليه وليست فيه خارجة عن وضعها ; لأنه إذا أفرد أحدهما بالمجالسة كان ممتثلا ، ولما كانت مجالسة كل منهما في مجالسة الآخر ساغ له الجمع بينهما ، وكأنه قال : أبحت لك مجالسة هذا الضرب . وكذلك لو أتى بالواو ، فقال : جالس الحسن وابن سيرين لم يتمثل إلا بالجمع بينهما . فاعرف الفرق بينهما .

وهذا أولى من قول السيرافي : " أو " التي للإباحة معناها معنى واو العطف ، والتسوية ؟ نسبت للإباحة لما بينهما من المضارعة ، ولهذا قالوا : سواء علينا قيامك وقعودك ، وسواء علي قيامك أو قعودك . وما أحسن قول الجرجاني في كتاب " العوامل " : " أو " توجب الشركة على سبيل الجواز ، والواو على سبيل الوجوب . قال : وحيث أريد بها الإباحة فلا بد من أن يكون المراد جنسا مخصوصا فلا يصح كل السمك أو اشرب اللبن ، أو اضرب زيدا أو عمرا إلا أن يراد بهما أنهما مثلان في الشرب واستحقاق الضرب .

وذلك راجع إلى اتحاد الجنس . وكذلك كل صيحانيا أو برنيا قال : وإذا أمعنت النظر لم تجد " أو " زائلة عن معناها الأصلي ، وهو كونها لأحد الشيئين أو الأشياء . انتهى .

[ ص: 178 ] ولا بد هاهنا من استحضار أن التخيير لا يكون إلا بين مباحين لا مباح ومحظور . إذا علمت معنى الإباحة في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكان ذلك في الأمر وفيما خير فيه بين مباحين أحدهما بمعنى الآخر ، فبإزاء ذلك النهي التضمني ، التخيير بين الإيقاع من كل واحد من محظورين أحدهما في معنى الآخر في الحظر ، وذلك كقولهم : لا تأت زنى أو قتل نفس وقوله تعالى { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } ; لأنه يجب ترك طاعة كل منهما مفردين ومجتمعين ، وكأنه قال : حظرت عليك طاعة هذا الضرب من الناس ; إذ كان ترك كل منهما في المعنى ترك طاعة الآخر ، كما كانت الإباحة في مجالسة الحسن أو ابن سيرين كذلك . وأما قول سيبويه : لو قال : " أو لا تطع كفورا " لانقلب المعنى ، فصحيح وذلك . أنه إنما يكون للإباحة أو التخيير بالمعنى السابق في قضية واحدة ، فإذا قال : " أو لا تطع كفورا " صارت في أثناء قضيتين الثانية منهما التي تلي " أو " غير الأولى التي قبلها ، فتخرج بذلك إلى معنى " بل " إذا كانت " بل " لا ترد في أثناء قضية واحدة ، وصارت " أو " بمعنى الإضراب ، وحينئذ يكون أضرب عن النهي عن طاعة الآثم وانتقل إلى النهي عن طاعة الكفور . وهذا قلب للمعنى المراد من الآية من ترك طاعتهما أو منفردين .

والحاصل : أن النهي إذا دخل على " أو " التي للإباحة حظر الكل جملة وتفصيلا كما في : لا تتعلم الشعر أو أحكام النجوم ، فهي نهي جمعا وإفرادا كما كان له في الأمر في الإباحة فعلهما جمعا وإفرادا ، وإذا دخل على " أو " التي للتخيير كقولك : لا تأخذ درهما أو دينارا فالأشبه في أنه يجب عليه الامتناع من أحدهما . قالوا : فأما الجمع بينهما ففيه نظر هل يكون مطيعا أو عاصيا ؟ قال : ابن الخشاب : وجه النظر أن التخيير الذي كان في الأمر هل هو [ ص: 179 ] باق في النهي أم لا ؟ لأن النهي في الأمر بمنزلة النفي من الإيجاب في الخبر ، وقد يتناول النفي الكلام الموجب فينفيه بمعناه ، وقد لا يكون كذلك في مواضع تنازعها العلماء وقصدت فيها رأي المحققين منهم . وكذلك النهي حكمه في تناول المأمور به حكم تناول النفي الموجب ، فإن كان التخيير الذي كان في الأمر باقيا مع النهي بحاله لم يكن المنهي الجمع بين الأمرين ، وإن لم يكن باقيا فالأمر بخلاف ذلك . وقال أبو بكر الرازي في " أصوله " : " أو " تتناول واحدا مما دخلت عليه لا جميعه ، كقوله تعالى { أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فهذا في الإثبات ، وأما في النفي فهي تتناول كل واحد على حياله ، كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } وقوله : { أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } ففي كل واحد على حياله لا على تعين الجمع ; ولهذا قال أصحابنا فيمن قال والله لا أكلمن زيدا أو عمرا : إنه يحنث بكلام أيهما وقع . وحكى السيرافي في " شرح سيبويه " أن المزني من أصحاب الشافعي سئل عن رجل حلف : والله لا كلمت أحدا إلا كوفيا أو بصريا . فقال : ما أراه إلا حانثا .

فذكر ذلك لبعض الحنفية ، فقال : خالف الكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا } إلى قوله { إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } وكل ذلك ما كان مباحا خارجا بالاستثناء من التحريم . وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام : { لقد هممت أن لا أقبل هدية [ ص: 180 ] إلا من قرشي أو ثقفي } فالقرشي والثقفي جميعا مستثنيان ، فرجع المزني إلى قوله . ويرد على ما قرره في النفي ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } يعني أن مجرد الإيمان بدون العمل لا ينفع ولا يحمل على عموم النفي أي : أنه لا ينفع الإيمان حينئذ النفس التي لم تقدم الإيمان ولا كسبت الخير في الإيمان ; لأنه إذا نفي الإيمان كان نفي كسب الخير في الإيمان تكرارا فيجب حمله على نفي العموم أي : النفس التي لم تجمع بين الإيمان والعمل الصالح . تنبيه " أو " : لها استعمالان في التخيير : أحدهما : أن يستوي طرفاه عند المأمور ولا يؤمر فيه باجتهاد ، كآية الكفارة . الثاني : أن يكون مأمورا فيه بالاجتهاد ، كقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } فإن الإمام يتخير في الأسير تخير اجتهاد ومصلحة لا تشه .

[ ص: 181 ] وقد تدخل " أو " للتبعيض والتفصيل ، وهو أن يذكر عن جماعة قولين مختلفين على أن بعضهم قال أحد القولين ، وبعضهم قال القول الآخر ، كقولك : أجمع القوم ، فقالوا : حاربوا أو صالحوا أي : قال بعضهم حاربوا . وقال بعضهم صالحوا ومنه قوله تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } وقد علم أنه ليس في الفرق فرقة تخير بين اليهودية والنصرانية ، وإنما هو إخبار عن جملة اليهود والنصارى أنهم قالوا ، ثم فصل ما قاله كل منهم . واحتج بعض المالكية في تخيير الإمام في عقوبة قاطع الطريق بقوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية وأنكر غيره التخيير في الآية . واختار السيرافي أن " أو " فيها من هذا الباب للتفصيل وترتيب اختيار هذه العقوبات على أصناف المحاربين كالآية السابقة على أن بعضا وهم الذين قتلوا يقتلون ، وبعضا وهم الذين أخذوا تقطع أيديهم وأرجلهم ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة . وقد تستعار " أو " إذا وقع بعدها مضارع منصوب ، نحو لألزمنك حتى تعطيني ، ولهذا قال النحاة : إنها بمعنى " إلى " لأن الفعل الأول يمتد إلى وقوع الثاني ، أو يمتد في جميع الأوقات إلى وقت وقوع الثاني بعده فينقطع امتداده . وقد مثل بقوله تعالى { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } أي : حتى تقع توبتهم أو تعذيبهم . وذهب الزمخشري إلى أنه عطف على ما سبق ، و { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض . والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم أو [ ص: 182 ] يهزمهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم .

فلو قال : والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل تلك - بالنصب - كان بمعنى " حتى " . وما يقال من أن تقدير العطف من جهة أن الأول منفي ليس بمستقيم ; إذ لا امتناع في العطف المثبت على المنفي وبالعكس ، وبهذا يظهر أن " أو " في قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } عاطفة مقيدة للعموم أي : عدم الجناح مقيد بانتفاء الأمرين . أعني المجامعة وتقرير المهر حتى لو وجد أحدهما كان الجناح . أي : وجب المهر ، فيكون { تفرضوا } مجزوما عطفا على { تمسوهن } . ولا حاجة إلى ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أنه منصوب بإضمار " أن " على معنى إلى أن تفرضوا ، أو حتى تفرضوا . أي : إذا لم توجد المجامعة فعدم الجناح يمتد إلى تقرير المهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية