صفحة جزء
[ ص: 115 ] فصل [ العقل ] العقل لغة : المنع ، ولهذا يمنع النفس من فعل ما تهواه . مأخوذ من عقال الناقة المانع لها من السير حيث شاءت ، وهو أصل لكل علم . قال ابن السمعاني : وكان بعض الأئمة يسميه أم العلم . وكثر الاختلاف فيه حتى قيل : إن فيه ألف قول . وقال بعضهم : [ ص: 116 ]

سل الناس إن كانوا لديك أفاضلا عن العقل وانظر هل جواب يحصل

. وقد تكلم فيه أصناف الخلق من الفلاسفة والأطباء والمتكلمين والفقهاء كل واحد ما يليق بصناعته . فأما الفلاسفة فشأنهم الكلام في الموجودات كلها ، ومعرفة حقيقتها . والعقل موجود . والأطباء شأنهم الخوض فيما يصلح الأبدان ، والعقل سلطان البدن . والمتكلمون هم أهل النظر ، والنظر أبدا يتقدم العقل . والفقهاء تكلموا فيه من حيث إنه مناط التكليف ، فقال الشافعي رضي الله عنه : آلة خلقها الله لعباده يميز بها بين الأشياء وأضدادها ، وقال في موضع آخر : والعقول التي ركبها الله فيهم ليستدلوا بها على العلامات التي نصبها لهم على القبلة وغيرها منا منه ونعمة ، قاله ابن سراقة ، وهذا النص موجود في " الرسالة " . قال الصيرفي في شرحها : بين الشافعي أن العقل معنى ركبه الله في الإنسان أي خلقه فيه لا أنه فعل الإنسان كما زعم بعض الناس . وقال ابن السمعاني في " القواطع " : روي عن الشافعي أنه آلة التمييز . قلت : وهذا موجود في " الرسالة " حيث قال : دلهم على جواز الاجتهاد بالعقول التي ركبت فيهم ، المميزة بين الأشياء وأضدادها إلخ .

وقيل : قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق المعلومات ، وقيل : جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات . [ ص: 117 ] وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري : العقل هو العلم . وكذا قال ابن سراقة : هو في الحقيقة ليس بشيء غير العلم لكنه علم على صفة فجميع المعلومات بحس وغيره إليه مرجعها ، وهو يميزها ويقضي عليها ، وحجته مأخوذة من قبل الله سبحانه بخلقه ذلك في الإنسان . انتهى . وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : العقل هو العلم لا فرق بينهما من حيث كون كل واحد منهما علما ، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا ، وهو قول المتكلمين من الإسلاميين ، وبه قالت المعتزلة ، وفرق بعض الفلاسفة بين العقل والعلم ، فقالوا : العقل جوهر مخلوق في الإنسان ، وهو مركز العلوم ، ولا يستفاد العقل إنما تستفاد العلوم . ا هـ . وكذلك نقل في كتابه في الأصول عن أهل الحق ترادف العلم والعقل . قال : فقالوا : واختلاف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها . وقال علي بن حمزة الطبري : نور وبصيرة في القلب منزلته البصر من العين . قال ابن فورك : هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح ، وذهب الحارث المحاسبي إلى أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة ، ومثله بالبصر ، ومثل العلم بالسراج ، فمن لا بصر له " لا ينتفع بالسراج " ومن [ ص: 118 ] له بصر بلا سراج لا يرى ما يحتاج إليه . فصرح بمخالفة العقل العلم ، وكذا قال أحمد : العقل غريزة . قال القاضي : أي خلقه الله تعالى ابتداء وليس اكتسابا . قال الأقليشي : وهذه الغريزة ليست حاصلة للبهيمة على ما ذهب إليه كثير من المحققين . واستحسنه الإمام في " البرهان " واعتقده رأيا .

إذ أكثر الأشعرية لم يفرقوا بين الإنسان والبهيمة في السجية ، وإنما فرقوا بينهما في العلوم الضرورية ، وهي العلوم الكسبية التي منشؤها من العلوم الضرورية . لكنه في " الشامل " حكاه ، ثم قال : إنه لا يرضاه وإنه يتهم النقلة عنه فيه ، وأطال في رده . وصار القاضي أبو بكر ، وأبو الطيب ، وسليم الرازي ، وابن الصباغ ، وغيرهم إلى أنه بعض العلوم الضرورية ، فخرجت العلوم الكسبية ; لأن العاقل يتصف بكونه عاقلا مع عدم جميع العلوم النظرية . وإنما قلنا : بعضها ; لأنه لو كان جميعها لوجب أن يكون الفاقد للعلم بالمدركات ، لعدم الإدراك المتعلق بها غير عاقل ، فثبت أنه بعض العلوم الضرورية ، وذلك نحو العلم باستحالة اجتماع الضدين ، والعلم بأن المعلوم لا يخرج عن أن يكون موجودا أو معدوما وأن الموجود لا يخلو عن الاتصاف بالقدم أو بالحدوث ، والعلم بمجاري العادات المدركات بالضرورة ، كموجب الأخبار المتواترة [ ص: 119 ] الصادرة عن المشاهدات إلى غير ذلك من العلوم التي يخص بها العقلاء .

وحاصله : العلم بوجوب الواجبات ، واستحالة المستحيلات ، وجواز الجائزات ، وقيل : إنه علوم بديهية كله . قال القاضي عبد الوهاب : فقلت له : أفتخص هذا النوع من الضرورة بوصف ؟ قال : يمكن أن يقال : ما صح مع الاستنباط . والحق : أن العقل الغريزي ليس بالعلوم الضرورية ، إذ الإنسان يوصف بالعقل مع ذهوله عن العلوم الضرورية . قال الإمام فخر الدين بعد إبطاله قول القاضي في العقل : وعند هذا ظهر أن العقل غريزة تلزمها هذه العلوم البديهية مع سلامة الآلات ، وقال إمام الحرمين : العبارة الوجيزة فيه : علوم ضرورية باستحالة مستحيلات وجواز جائزات . أو نور يقبل من النور الأعلى بمقدار ما يحتمله ، وهو موجود بالمجنون وغيره عند هذا القائل لكن حال بينه وبين القبول حائل كما في نور الشمس مع السحاب . وقال الغزالي : هو غريزي وضروري وهما نظري وتجريبي ، والعلم بعواقب الأمور ، وهما مكتسبان . وقال ابن فورك : هو العلم الذي يمتنع به عن فعل القبيح .

واختار الآمدي : أنه العلوم الضرورية التي لا خلو لنفس الإنسان عنها بعد كمال آلة الإدراك وعدم أضدادها ، ولا يشاركه فيها شيء من الحيوانات . وحكاه عن القاضي أبي بكر فيحتمل أن يكون له قولان [ ص: 120 ] ثم هو غير جامع للعقل الثابت للصبيان ، فإنهم عقلاء بالإجماع كما قاله القاضي من الحنابلة في كتاب " العدة " مع انتفاء ما ذكره ; لامتناع صحة نفي العقل عنهم مطلقا ، وإلا لزم جواز وصفهم بضده ، وهو الجنون وذلك محال ، وغير مانع لعلوم المجانين التي لا خلو ; لأنفسهم عنها ، كعلمهم بأن الاثنين أكثر من الواحد ونحوه مع أنهم غير عقلاء ، وقال الجيلي من أصحابنا في كتاب " الإعجاز " : فرق بين العقل والعلم ، ويظهر شرف العقل من حيث إنه منبع العلم وأساسه ، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة . قال : وفي الحديث : { أول ما خلق الله العقل ، وقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك أعاقب } . فإن قلت : إن كان العقل عرضا فكيف يخلق قبل الأجسام ، وإن كان جوهرا فكيف يكون قائما بنفسه لا بمتحيز ؟ . قلنا : هذا يتعلق بعلم المكاشفة . قال عليه الصلاة والسلام : { جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله بالعقل ، وجد المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم } . [ ص: 121 ] على أن بعض الأصوليين قال : إن الجوهر قائم بنفسه ، ولا تناقض بين قولنا : إنه نوع من العلوم الضرورية ، وبين قولنا : إنه خلق قبل الأشياء . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية