صفحة جزء
الرابعة : الأفعال الماضية تفيد بالوضع أمرا : أن معنى الجملة التي تليها الزمن الماضي فقط لا غير ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه ، بل إن أفاد الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر . هذا هو التحقيق . واختلف الأصوليون في دلالة " كان " على التكرار ، وهي مسألة لم يذكرها النحاة في دلالتها على الانقطاع ، وهي مسألة لم يذكرها الأصوليون . قال ابن عصفور في شرح الجمل " : وأصحها ، وهو قول الجمهور : نعم . فإذا قلت : كان زيد قائما دل على أنه قام فيما مضى وليس الآن بقائم ، وقيل : بل لا يعطي الانقطاع بدليل : { وكان الله غفورا رحيما } وأجاب بأن ذلك قد يتصور فيه الانقطاع بأن يكون المراد به الإخبار بأن الله - تعالى - كان فيما مضى غفورا رحيما كما هو الآن كذلك ، فيكون القصد الإخبار بثبوت هذا الوصف في الماضي ، ولم يتعرض لخلاف ذلك . وأجاب السيرافي بأنه يحتمل الانقطاع بمعنى أن المغفور لهم والمرحومين قد زالوا .

والأحسن في الجواب : أن في صفات الله - تعالى - مسلوبة الدلالة على تعيين الزمان ، وصار صالحا للأزمنة الثلاثة بحدوث الزمان وقدم الصفات الذاتية ، وكذا الفعلية على رأي الحنفية . والتحقيق خلاف القولين كما سبق ، ولهذا قال الزمخشري في قوله تعالى : [ ص: 254 ] { كنتم خير أمة } " كان " عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه { وكان الله غفورا رحيما } ، وقال ابن معط في ألفيته " : وكان للماضي الذي ما انقطعا وحكى ابن الخباز في شرحها قولا أنها تفيد الاستمرار محتجا بالآية ، وسمعت شيخنا أبا محمد بن هشام - رحمه الله - ينكره عليه ، ويقول : غره فيه عبارة ابن معط ، ولم يصر إليه أحد ، بل الخلاف في أنها تفيد الانقطاع أو لا تقتضي الانقطاع ولا عدمه ، وأما إثبات قوله بالاتصال والدوام فلا يعرف .

قلت : وقال الأعلم : تأتي للأمرين ، فالانقطاع نحو كنت غائبا ، وأما الآن حاضر ، والاتصال كقوله تعالى : { وكان الله غفورا رحيما } وهو في كل حال موصوف بذلك . وهاهنا قاعدة من قواعد التفسير : وهي أنه وقع في القرآن إخبار الله عن صفاته الذاتية وغيرها بلفظ " كان " كثيرا { كان الله سميعا عليما } { واسعا حكيما } { غفورا رحيما } { توابا رحيما } وأنها لم تفارق ذاته ، ولهذا يقدرها بعضهم بما زال فرارا مما يسبق إلى الوهم من أن " كان " تفيد انقطاع المخبر به من الوجود ، كقولهم : دخل في خبر كان .

قالوا : فكان وما زال أختان فجاز أن تستعمل إحداهما في معنى الأخرى مجازا بالقرينة ، وهو تكلف لا حاجة إليه ، وإنما معناها ما ذكرنا من أزلية الصفات ثم يستفيد معناها من الحال ، وفيما لا يزال بالأدلة [ ص: 255 ] العقلية باستصحاب الحال وحيث الإخبار بها عن صفة فعلية ، فالمراد تارة الإخبار عن قدرته عليها في الأزل ، نحو كان الله خالقا ورزاقا ومحييا ومميتا ، وتارة تحقيق نسبته إليه نحو { وكنا فاعلين } وتارة ابتداء الفعل وإنشاؤه ، نحو { وكنا نحن الوارثين } فالإرث إنما يكون بعد موت المورثين ، والله - سبحانه وتعالى - مالك كل شيء على الحقيقة من قبل ومن بعد ، وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين فالمراد بها التنبيه على أنها غريزية وطبيعية نحو { وكان الإنسان عجولا } { إنه كان ظلوما جهولا } ويدل عليه { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } أي : خلق على هذه الصفة ، وهي حال مقدرة ، أو بالقوة لم يخرج إلى الفعل ، وحيث أخبر بها عن أفعاله دلت على اقتران مضمون أمر الجملة بالزمان نحو { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } ومن هذا الثاني الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ " كان " نحو كان يقوم ، وكان يفعل . وسنتكلم عليه في باب العموم إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية