صفحة جزء
الثاني : [ المراد بصيغة ( افعل ) ] المراد بصيغة " افعل " لفظها وما قام مقامها من اسم الفعل كصه ، والمضارع المقرون باللام ، مثل " ليقم " على الخلاف السابق فيه . وصيغ الأمر من الثلاثي " افعل " نحو اسمع نحو احضر ، وافعل نحو اضرب ، ومن الرباعي فعلل نحو قرطس ، وأفعل نحو أعلم ، وفعل نحو علم ، وفاعل نحو ناظر ، ومن الخماسي تفعلل نحو تقرطس ، وتفاعل نحو تقاعس ، وانفعل نحو انطلق ، وافتعل نحو استمع وافعل نحو احمر ، ومن السداسي استفعل نحو استخرج ، وافعوعل نحو اغدودن ، وافعال نحو احمار ، وافعنلل نحو اقعنسس ، وافعول نحو اعلوط [ ص: 275 ] وكذلك المصدر المجعول جزاء الشرط بحرف الفاء كقوله تعالى : { فتحرير رقبة } أي : فحرروا ، وقوله : { فضرب الرقاب } أي : فاضربوا الرقاب ، وقوله : { ففدية من صيام } أي : فافدوا ، وقوله : { فعدة من أيام أخر } أي : صوموا .

قاله القاضي الحسين في أول باب الرهن من تعليقه " . وإنما خص الأصوليون " افعل " بالذكر لكثرة دورانه في الكلام . وترد صيغة " افعل " لنيف وثلاثين معنى : أحدها : الإيجاب ، كقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . الثاني : كقوله : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ومثله محمد بن نصر المروزي في كتاب " تعظيم قدر الصلاة " بقوله تعالى : { فسبحه وأدبار السجود } ومثله ابن فارس بقوله تعالى : { فانتشروا في الأرض } وأشار المازري إلى أن هذا القسم إنما يصح إذا قلنا : المندوب مأمور به ، وفيه نظر . الثالث : الإرشاد ، كقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } { وأشهدوا إذا تبايعتم } { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } وسماه الشافعي في أحكام القرآن " : الرشد .

ومثله بقوله { سافروا تصحوا } وأشار إلى الفرق بينه وبين الأول ، فقال : [ ص: 276 ] وفي كل حتم من الله رشد ، فيجتمع الحتم والرشد . وسماه الصيرفي : الحظ ، وفرق القفال الشاشي وغيره بينه وبين الندب بأن المندوب مطلوب لمنافع الآخرة ، والإرشاد لمنافع الدنيا ، والأول فيه الثواب ، والثاني لا ثواب فيه . الرابع : التأديب وعبر عنه بعضهم بالأدب ومثله بقوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } قال : وليس في القرآن غيره ، ومثله القفال " بالأمر بالاستنجاء باليسار " " أكل الإنسان مما يليه " ومثله ابن القطان " بالنهي عن التعريس على قارعة الطريق " والأكل من وسط القصعة ، وأن يقرن بين التمرتين " ، قال : فيسمى هذا أدبا ، وهو أخص من الندب ، فإن التأديب يختص بإصلاح الأخلاق وكل تأديب ندب من غير عكس .

الخامس : الإباحة كقوله تعالى : { كلوا من الطيبات } { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وأنكر بعض المتأخرين ذلك ، وقال : لم يثبت عندي لغة . والتمثيل بما ذكروه إنما يتم إذا كان الأصل في الأشياء الحظر . السادس : الوعد ، كقوله تعالى : { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } . السابع : الوعيد ويسمى التهديد كقوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن [ ص: 277 ] ومن شاء فليكفر } بدليل قوله : { إنا أعتدنا للظالمين نارا } وقوله : { اعملوا ما شئتم } بدليل قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . ومنهم من قال : التهديد أبلغ من الوعيد ، ومثل محمد بن نصر المروزي التهديد بقوله تعالى : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } وقوله لإبليس : { واستفزز من استطعت } ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { من باع الخمر فليشقص الخنازير } قال وكيع : معناه يعضها .

الثامن : الامتنان كقوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } وسماه إمام الحرمين الإنعام . وهو وإن كان بمعنى الإباحة لكن الظاهر منه تذكير النعمة ، والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة مجرد إذن وأنه لا بد من اقتران الامتنان بذكر احتياج الخلق إليه ، وعدم قدرتهم عليه ، ونحو ذلك كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه . التاسع : الإنذار كقوله تعالى : { قل تمتعوا } { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } والفرق بينه وبين التهديد من وجهتين : أحدهما : الإنذار يجب أن يكون مقرونا بالوعيد كالآية ، والتهديد لا يجب فيه ذلك بل قد يكون مقرونا به وقد لا يكون . وثانيهما : أن الفعل المهدد عليه يكون ظاهره التحريم والبطلان ، وفي الإنذار قد يكون كذلك وقد لا يكون .

[ ص: 278 ] العاشر : الإكرام { ادخلوها بسلام آمنين } قال القفال : ومنه { قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : اثبت مكانك } . الحادي عشر : السخرية ، كقوله تعالى : { كونوا قردة خاسئين } ; لأنه لا يصح الأمر إلا بالمقدور عليه ، وجعله الصيرفي وابن فارس من أمثلة التكوين . قال ابن فارس : وهذا لا يكون إلا من الله تعالى ، ومثل بها ابن الحاجب في أماليه " للتسخير ، ومثل للإهانة بقوله : { كونوا حجارة } قال : والفرق بينهما أن التسخير عبارة عن تكوينهم على جهة التبديل لمن جعلناهم على هذه الصفة ، والإهانة عبارة عن تعجيزهم فيما يقدرون عليه أي : أنتم أحقر من ذلك .

تنبيه وقع في عبارتهما التسخير ، والصواب : ما ذكرناه فإن السخرية الهزء ، كقوله تعالى : { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } ، وأما التسخير فهو نعمة وإكرام كقوله تعالى : { وسخر لكم الليل والنهار } . الثاني عشر : التكوين كقوله { كن فيكون } ، وسماه الغزالي والآمدي : كمال القدرة ، وسماه القفال والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين : التسخير ، والفرق بينه وبين السخرية : [ ص: 279 ] أن التكوين سرعة الوجود عن العدم ، وليس فيه انتقال إلى حال ممتهنة ، بخلاف السخرية فإنه لغة : الذل والامتهان . الثالث عشر : التعجيز ، نحو { فأتوا بسورة من مثله } { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } .

والفرق بينه وبين التسخير أن التسخير نوع من التكوين ، فإذا قيل : كونوا قردة معناه انقلبوا إليها ، والتعجيز إلزامهم بالانقلاب ليظهر عجزهم لا لينقلبوا إلى الحجارة ، ومثله الصيرفي والقفال بقوله : { كونوا حجارة أو حديدا } قال : ومعلوم أن المخاطبين ليس في قدرتهم قلب الأعيان ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يخترع ويسخر ، علم أن قوله كونوا كذا ، تعجيز أي : أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تمنعوا من جري قضاء الله عليكم ، وكذا جعله ابن برهان والآمدي من أمثلة التعجيز ، وقال ابن عطية في تفسيره " عندي في التمثيل به نظر ، وإنما التعجيز حيث يقتضى بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب : كقوله : { فادرءوا عن أنفسكم الموت } ونحوه ، وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم ، والتقدير كذا وكذا .

الرابع عشر : التسوية بين شيئين نحو { فاصبروا أو لا تصبروا } هكذا مثلوا به ، وعلى هذا فقوله : { سواء عليكم } جملة مبينة مؤكدة لقوله : { فاصبروا أو لا تصبروا } ; لأن الاستواء لما لم يكن بالصريح أردفه مبالغة في الحسرة عليهم ، ويحتمل أن يقال : إن صيغة " افعل " أو لا " تفعل " وحدها لا تقتضي التعجيز ، ولا استعار لها بالتسوية إلا من جهة أن التخيير بين الشيئين [ ص: 280 ] يقتضي استواءهما فيما خير المخاطب به ، أو يقال : إن صيغة " افعل " وحدها لم تقتض التسوية لكن المجموع المركب من " افعل " أو لا " تفعل " ، فعلى هذا لا يصدق عليه أن المستعمل صيغة الأمر من حيث هي صيغة الأمر ، فلا يصح جعلهم هذا المثال من صيغة " افعل " وعذرهم أن المراد استعمالها حيث يراد التسوية بالكلام الذي هي فيه .

الخامس عشر : الاحتياط ، ذكره القفال ومثله بقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا قام أحدكم من النوم فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا } بدليل قوله : { فإنه لا يدري أين باتت يده } أي : فلعل يده لاقت نجاسة من بدنه لم يعلمها فليغسلها قبل إدخالها لئلا يفسد الماء . السادس عشر : الدعاء والمسألة ، نحو { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } { ربنا اغفر لنا } وقد أورد على تسميتهم ذلك في الأولى سؤالا قوله تعالى : { ولا يسألكم أموالكم } وأجاب العسكري في الفروق " بأنه يجري مجرى الوقف في الكلام واستعطاف السامع به . ومثل محمد بن نصر المروزي الأمر بمعنى الدعاء كقولك : كن بخير . السابع عشر : الالتماس ، كقولك لنظيرك : افعل . وهذا أخص من إرادة الامتثال الآتي .

[ ص: 281 ] الثامن عشر : التمني . كقولك لشخص تراه : كن فلانا كذا . مثله ابن فارس ونحوه تمثيل الأصوليين ، كقول امرئ القيس :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

فالمراد بقوله : انجلي بمعنى الانجلاء لطوله ، ونزلوا ليل المحب لطوله منزلة ما يستحيل انجلاؤه مبالغة ، وإلا فانجلاء الليل غير مستحيل ويجيء من هذا المثال السؤال السابق في التسوية ، فإن المستعمل في التمني هو صيغة الأمر مع صيغة " إلا " لا الصفة وحدها ، فالأحسن مثال ابن فارس .

التاسع عشر : الاحتقار . قال : { ألقوا ما أنتم ملقون } يعني أن السحر وإن عظم شأنه ففي مقابلة ما أتى به موسى عليه السلام حقير . العشرون : الاعتبار والتنبيه ، كقوله تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } وقوله { قل سيروا في الأرض فانظروا } ومثله العبادي بقوله تعالى : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر } وجعله الصيرفي من أمثلة تذكير النعم لهم . الحادي والعشرون : التحسير والتلهيف . ذكره ابن فارس ومثله بقوله تعالى : { قل موتوا بغيظكم } وقوله تعالى : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } . الثاني والعشرون : التصبير ، كقوله : { لا تحزن إن الله معنا } [ ص: 282 ] وقوله تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } وقوله : { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } ذكر هذه الثلاثة الأخيرة القفال . الثالث والعشرون : الخبر { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } المعنى أنهم سيضحكون ويبكون . ومثله محمد بن نصر المروزي بقوله تعالى : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } أي : أذنتم بحرب . أي : كنتم أهل حرب ، ومنه على أحد التأويلين : { إذا لم تستح فاصنع ما شئت } . أي : صنعت ما شئت ، وعكسه { والوالدات يرضعن أولادهن } المعنى لترضعن الوالدات أولادهن . وهكذا أبلغ من عكسه ; لأن الناطق بالخبر مريدا به الأمر كأنه نزل المأمور به منزلة الواقع .

الرابع والعشرون : التحكيم والتفويض ، كقوله : { فاقض ما أنت قاض } ذكره إمام الحرمين . وسماه ابن فارس والعبادي : التسليم ، وسماه ابن نصر المروزي : الاستبسال . قال : أعلموه أنهم قد استعدوا له بالصبر وأنهم غير تاركين لدينهم ، وأنهم يستقلون بما هو فاعل في جنب ما يتوقعونه من ثواب الله . قال : ومنه قول نوح : { فأجمعوا أمركم } أخبرهم بهوانهم عليه . الخامس والعشرون : التعجب ، ذكره الصفي الهندي ، ومثله بقوله تعالى : { قل كونوا حجارة أو حديدا } وجعله القفال وغيره من قسم التعجيز . ونقل العبادي في الطبقات ورود التعجب [ ص: 283 ] عن أبي إسحاق الفارسي ، ومثله قوله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } ومثل ابن فارس والعلم القرافي للتعجب بقوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } { أبصر به وأسمع } وهو أليق . السادس والعشرون : بمعنى التكذيب ، كقوله تعالى : { قل فأتوا بسورة مثله } : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } وقوله : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون } الآية . السابع والعشرون : المشورة ، كقوله تعالى : { فانظر ماذا ترى } ذكره العبادي . والفرق بينه وبين المسألة : أن السؤال يحل محل الحاجة إلى ما يسأل ، والمشورة تقع تقوية للعزم . الثامن والعشرون : قرب المنزلة ذكره الصيرفي ومثله بقوله تعالى : { ادخلوا الجنة } . التاسع والعشرون : الإهانة ، كقوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } { فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } وقوله : { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد } ذكره ابن القطان والصيرفي . قالا : وليس هذا أمر إباحة لإبليس ، وإنما معناه أن ما يكون مثل ذلك لا يضر عبادي ، كقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وسماه جماعة بالتهكم .

[ ص: 284 ] وضابطه : أن يؤتى بلفظ دال على الخير والكرامة ، والمراد ضده . وفرق جماعة بينه وبين التخيير بأن الإهانة إنما تكون بالقول أو بالفعل أو تركهما دون مجرد الاعتقاد ، والاحتقار إما مختص به ، أو وإن لم يكن كذلك لكنه لا محالة يحصل بمجرد الاعتقاد بدليل أن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه ، يقال : إنه احتقره ، ولا يقال : إنه أهانه ما لم يصدر منه قول أو فعل ينبئ عنه . الثلاثون : التحذير والإخبار عما يئول إليه أمرهم ، كقوله تعالى : { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } ذكره الصيرفي . الحادي والعشرون : إرادة الامتثال كقولك عند العطش : اسقني ماء فإنك لا تجد من نفسك عند التلفظ به إلا إرادة السقي أعني طلبه ، فإن فرض ذلك من السيد لعبده تصور أن يكون للوجوب أو الندب مع هذه الزيادة ، وهو إتحاف السيد بغرضه . وذلك غير متصور في حق الله تعالى . الثاني والثلاثون : إرادة الامتثال لأمر آخر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : { كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل } ، فإنه لم يقصد الأمر بأن يقتل ، وإنما القصد به الاستسلام ، وعدم ملابسة الفتن

الثالث والثلاثون : التخيير ، كقوله تعالى : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ذكره القفال . وفيه ما سبق في التسوية .

التالي السابق


الخدمات العلمية