صفحة جزء
مسألة [ احتياج الإجزاء إلى دليل ] إتيان المكلف بالمأمور به على المشروع موجب للإجزاء عند الجمهور خلافا لأبي هاشم والقاضي وعبد الجبار حيث قالا : الإجزاء يحتاج إلى دليل . قال الأستاذ أبو منصور : وهو خلاف مردود بإجماع السلف على خلافه . ونقل الشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم الرازي قولا ثالثا : أن الأمر موقوف على ما يثبته الدليل ونسباه للأشعرية .

[ ص: 339 ] قال سليم : وهو قريب من مذهب المعتزلة . وفيها مذهب رابع : وهو أنه يقتضي الإجزاء من حيث عرف الشرع ، ولا يقتضيه من حيث وضع اللغة : حكاه في المصادر " عن الشريف المرتضى . وخامس : وهو التفصيل بين ما يقع على الشروط المعتبرة ، كالصلاة المؤداة بشروطها وأركانها فهو موصوف بالإجزاء ، وبين ما يدخله ضرب من الخلل إما من جهة المكلف أو غيره كالوطء في الحج والصوم فلا يدل على الإجزاء . حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص " . ثم قال : وليس هذا في الحقيقة مذهبا آخر ; لأنا لا نقول بالإجزاء على أي أمر وقع ، وإنما يجزئ إذا وقع على الوجه المعتبر . وقال الغزالي في المستصفى " إذا قلنا : إن القضاء يجب بأمر جديد ، وأنه مثل الواجب الأول ، فالأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال ، لكن إنما سمي قضاء إذا كان فيه تدارك الفائت من أصل العبادة ووضعها ، فإن لم يكن فوات استحال تسميته قضاء يعني شرعا لا عقلا . ولا بد من تحرير محل النزاع فنقول : الإجزاء يطلق باعتبارين : أحدهما : الامتثال . والثاني : إسقاط القضاء ، فالمكلف إذا أتى بالمأمور على وجهه فعلى الأول هو مجزئ بالاتفاق ، وعلى الثاني هو موضع الخلاف كما صرح به القاضي عبد الوهاب في الملخص " والغزالي في المستصفى " وغيرهما ، أي هل يستلزم سقوط القضاء ؟ لا يستلزم بمعنى أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم : افعل كذا ، فإذا فعلت أديت الواجب ، ويلزمك مع ذلك القضاء .

[ ص: 340 ] قال القاضي عبد الجبار في المعتمد " : وهذا هو معنى قولنا : إنه غير مجزئ ، ولا يعني به أنه لم يمتثل ، ولا أنه يجب القضاء فيه ، ولا يكون وقع موقع الصحيح الذي لا يقتضي ، هذا تحرير مذهب عبد الجبار في المسألة . وممن اعتنى به أيضا الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العنوان " ، فقال : وتحرير الخلاف فيه أن الاكتفاء بفعل المأمور به هل هو من مدلول الأمر ومقتضاه أو هو من مجموع فعل المأمور به وأن الأصل عدم وجوب الغير ؟ وأما كونه إذا فعل المأمور به يبقى مطلوبا فما زاد فلا يصار إليه أصلا ; لأن الأمر انقطع تعلقه عما عدا المأمور به فلو بقي عليه شيء آخر من جهة الأمر لزم أن لا يكون منقطعا في تعلقه ، وفيه جمع بين النقيضين ، وهو محال . انتهى . وقد وقع في المسألة أمران : أحدهما : إطلاق إمام الحرمين وفخر الدين وأتباعه الخلاف في أن الامتثال هل يوجب الإجزاء وعبد الجبار لم يخالف في الإجزاء ، بالتفسير الأول ، وإنما خالف فيه بالثاني ، والخلاف في الأول بعيد ، والأول أقرب . قال الهندي : وعلى هذا ترجمة المسألة بما ذكروه لا يستقيم ; لأن الإجزاء عند المتكلمين ليس عبارة عن سقوط القضاء بالفعل ، فلا يلزم من كون الفعل سقوط القضاء ، بل ينبغي ترجمتها على ما قاله الغزالي وغيره بأن الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بالمأمور به عند الفقهاء وقال المتكلمون : لا [ ص: 341 ] يقتضي ، فلا معنى للتخصيص على هذا ببعض المتكلمين كأبي هاشم وعبد الجبار ، فإن كل من قال : الإجزاء ليس عبارة عن سقوط القضاء على التفسير المتقدم يلزم أن يقول : لا يلزم من كون الفعل مجزئا سقوط القضاء ولعل الأقرب أن الخلاف إنما هو في سقوط القضاء لا في سقوط التعبد به ، وكونه امتثالا وطاعة ; لأن ذلك كالتناقض فيبعد وقوع الخلاف فيه ; لأن أدلتهم تشعر بذلك .

الثاني أنه يعني بقوله : لا يستلزمه أن فعل المأمور به لا يمنع من الأمر بالقضاء . وحاصله : أنه لا يدل على الإجزاء وإنما الإجزاء مستفاد من عدم دليل يدل على وجوب الإعادة ، ولا خلاف بين عبد الجبار وغيره في براءة الذمة عند الإتيان بالمأمور . واتفقوا على أن البراءة الأصلية اقتضت العدم السابق ، وعبد الجبار يقول : العدم اللاحق الكائن بعد الفعل مستفاد أيضا من البراءة الأصلية ، كالأعدام الكائنة قبل الفعل . وقد شبه القرافي هذا الخلاف بالخلاف في مفهوم الشرط ، كقوله : إن دخلت الدار فأنت حر ، فمن نفاه قال : عدم عتقه ما لم يأت بالمشروط مستفاد من الملك السابق ، ومن أثبته قال : هو مستفاد من ذلك ، ومن مفهوم الشرط أيضا . وظهر بهذا أن الخلاف لفظي ; لأنه أتى بالمأمور على وجهه ولا خلاف في أنه يمكن إيراد أمر ثان بعبادة يوقعها المأمور على حسب ما أوقع الأولى ; لأنه كاستئناف شرع وتعبد ثان . والنزاع في تسمية هذا الأمر الثاني قضاء للأول ، فالجمهور ينفونه ; لأن القضاء عندهم ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق وجوبه ، وهذا ليس كذلك ، [ ص: 342 ] وبهذا يندفع بناء من بنى عليه صلاة فاقد الطهورين إذا تمكن من أحدهما هل يعيد ؟ قال ابن الحاجب في مختصره الكبير " : إن أراد عبد الجبار أنه لا يمنع أن يرد أمر بعده بمثله فمسلم ، ومرجع النزاع في تسميته قضاء ، وإن أراد أنه لا يدل على سقوطه فساقط . وقال إلكيا الطبري : الخلاف في هذه المسألة لا يتحقق ; لأنه إن كان المراد لزوم الإتيان بمثله فهي مسألة التكرار ، والأول يجزئ عن الآخر لكن لم يستكمل ، وإن كان ; لأنه لم يقع الموقع فهو غير مجزئ بالاتفاق ، وقال : هذه المسألة مقلوبة بالمسألة الأخرى ، وهي كون النهي يدل على الفساد .

التالي السابق


الخدمات العلمية