صفحة جزء
مسألة [ مفارقة الأمر للنهي في الدوام والتكرار ] النهي يفارق الأمر في الدوام والتكرار فإن في اقتضاء الأمر التكرار خلافا مشهورا ، وها هنا قطع جماعة منهم الصيرفي والشيخ أبو إسحاق بأن النهي المطلق يقتضي التكرار والدوام ، ونقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد الإسفراييني وابن برهان ، وكذا قاله أبو زيد في التقويم " . وأما الخلاف في أن الأمر هل يقتضي التكرار أم لا ؟ فلا يتصور مجيئه في النهي ; لأن الانتهاء عن النهي مما يستغرق العمر إن كان مطلقا ; لأنه لا [ ص: 371 ] انتهاء إلا بعدم المنهي عنه من قبله ، ولا يتم الانعدام من قبله إلا بالثبوت عليه قبل الفعل فلا يتصور تكراره بخلاف الأمر بالفعل ; لأن الفعل المستمر له حد يعرف وجوده بحده ثم يتصور التكرار بعده . وقال المازري : حكى غير واحد الاتفاق على أن النهي يقتضي الاستيعاب للأزمنة بخلاف الأمر ، لكن القاضي عبد الوهاب حكى قولا أنه كالأمر في اقتضائه المرة الواحدة ، ولم يسم من ذهب إليه ، والقاضي وغيره أجروه مجرى الأمر في أنه لا يقتضي الاستيعاب . وقال أبو الحسين السهيلي في كتاب أدب الجدل " : النهي المطلق يقتضي التكرار في قول الجمهور ، وسمعت فيه وجها آخر أنه يقتضي الاجتناب عن الفعل في الزمن الأول وحده ، وهذا مما لا يجوز حكايته لضعفه وسقوطه . انتهى . وقال ابن عقيل في الواضح " : النهي يقتضي التكرار ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : لا يقتضيه ، وهذا النقل عن القاضي يخالفه نقل المازري ، وهو الصواب . وممن نقل الخلاف في المسألة الآمدي وابن الحاجب ، واختار الإمام في المحصول " أنه لا يقتضي التكرار كما لا يقتضيه في الأمر . وقال سليم الرازي : النهي يقتضي التكرار ، وعن بعض الأشعرية أنه يقتضي الكف عقب لفظ النهي .

[ ص: 372 ] فتحصلنا فيه على مذاهب : يقتضيه مطلقا . يقتضيه مرة واحدة . لا يقتضيه بل يوقف إلى الدليل من خارج ، وهو المنقول عن القاضي أبي بكر ، واختاره في المحصول " ، ويجيء مما سبق في الأمر مذهب آخر بالتفصيل من أن يرجع إلى قطع الواقع فللمرة ، كقولك للمتحرك : لا تتحرك ، وإن رجع إلى اتصال الواقع واستدامته فللدوام ، كقولك للمتحرك : لا تسكن . أما النهي المقيد بشرط أو صفة فالخلاف السابق في الأمر في اقتضائه التكرار يأتي هنا ، فمن قال : النهي لا يقتضي بمجرده التكرار والدوام قال به هاهنا . قال القاضي عبد الوهاب والشيخ أبو إسحاق : والصحيح أنه يتكرر وهو آكد من مطلقه بخلاف الأمر ; لأن مطلق النهي التكرار فالمعلق على الشرط أولى . وقال إلكيا الهراسي : النهي المقيد بشرط أو صفة لا يقتضي التكرار بخلاف النهي المطلق ; لأنه إذا قيده بوصف صار مغلوبا على الاعتماد مختصا به ، فلو اقتضى التكرار مع فهم تعدده كان كالأمر . وحكى صاحب الواضح " عن أبي عبد الله البصري أنه فرق بين النهي المعلق بشرط ، وبين النهي المطلق ، فحمل المطلق على التأبيد ، وفصل بينه وبين الأمر ، وحمل النهي المعلق بشرط على أنه لا يقتضي التكرار سوى بينه وبين الأمر ، ومثله بالسيد إذا قال لعبده : لا تسقني الماء إذا دخل زيد الدار ، فدخل زيد دفعة واحدة كفى ، ولا يجب أن يمنع من سقيه كل دفعة يدخل زيد الدار .

التالي السابق


الخدمات العلمية