صفحة جزء
ما يدخله العموم وما لا يدخله والكلام في العموم في مواضع :

أحدهما : هل يتصور في القول النفسي ؟ المشهور من مذهب الأشعرية تصوره ، كما قالوا في الأمر والنهي .

قال القاضي أبو بكر : اعلم أن العموم والخصوص يرجعان إلى الكلام ، ثم الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس ، وهو الذي يعم ويخص ، والصيغ والعبارات دالة عليه ، ولا تسمى بالعموم والخصوص إلا تجوزا كما أن الأمر والنهي يرجعان إلى المعنى القائم بالنفس دون الصيغ . [ ص: 10 ] وذهب جمهور الفقهاء إلى أن العموم والخصوص وصفان راجعان إلى العبارات والصيغ ، كقولهم في الأمر والنهي . انتهى . وأنكر إمام الحرمين ظهوره في ذلك ، وأشار إلى أنه مخالف لجماعة الأشعرية فيما قالوه ، وصرف عموم النفسي إلى عموم فيها تكون المعلومات على جهات دون جهات . قال المازري : ويقال له : إن أنكرت وجود قول في النفس يتضمن معنى الاستيعاب بنفسه وحقيقة فمسلم ، وأما إثبات قول في النفس هو خبر عن معنى العموم فليس هو المراد ، والنزاع فيه .

الثاني : هل العموم في العموم ؟ قال المازري : اختلفوا في نحو قولهم : هذا عطاء عام ، هل ذكر العموم هنا حقيقة أو مجاز ؟ قال الأكثرون من أئمة الكلام : إنه مجاز لكون ما تناوله كل إنسان من العطاء مختصا به ، وهو غير ما يتناوله صاحبه ، بخلاف قوله تعالى : { المشركين } فإن هذه اللفظة تتناول كل مشرك تناولا واحدا . وقيل : حقيقة ، والخلاف في هذا لا طائل تحته .

الثالث : هل يتصور في الأحكام حتى يقال : حكم قطع السارق عام ؟ أنكره القاضي ، فإذا قيل : حكم الله عام في قطع السارق ، فكل سارق يختص بما ورد فيه من الحكم ، وأثبته إمام الحرمين وابن القشيري . [ ص: 11 ] وهذا الذي ذكره القاضي إن أراد به أن القطع الذي يختص به هذا السارق لا يتعداه إلى غيره ، فلعله تخرج على القول برجوع الأحكام إلى صفات النفس ; فأما عندنا فالأحكام ترجع إلى قول الشارع .

وقال المازري : الحق ابتناء هذه المسألة على أن الحكم يرجع إلى قول أو إلى وصف يرجع إلى الذات ; فإن قلنا بالثاني ، لم يتصور العموم لما تقدم في الأفعال ، وإن قلنا : يرجع إلى قول الله ، فقوله سبحانه : { والسارق } يشمل كل السارق ، فنفس القطع فعل ، والأفعال لا عموم لها حقيقة .

الرابع : هل يتصور في الأفعال ؟ قال القاضي أبو عبد الله الصيمري الحنفي في كتابه " مسائل الخلاف في أصول الفقه " : دعوى العموم في الأفعال لا يصح عند أصحابنا . وقال بعض أصحاب الشافعي : ودليلنا أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة ، والفعل لا يقع إلا على درجة واحدة .

واحتج الخصم بقوله : ( حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ) ، دل على أن فعله في عين واحدة يقتضي تعديه في كل عين . والجواب : أن هذا لم يعرف موضع النزاع منه . انتهى . [ ص: 12 ]

وقال الشيخ أبو إسحاق : لا يصح العموم إلا في الألفاظ ، وأما في الأفعال فلا يصح ، لأنها تقع على صفة واحدة ، فإن عرفت اختص الحكم به ، وإلا صار مجملا . فهذا عرفت صفته قول الراوي : { جمع بين الصلاتين في السفر } فهذا مقصور على السفر . ومن الثاني : قوله : { في السفر } فلا يدري إن كان طويلا أو قصيرا ، فيجب التوقف فيه ، ولا ندعي فيه العموم . [ ص: 13 ]

وقال ابن القشيري : أطلق الأصوليون أن العموم والخصوص لا يتصور إلا في الأقوال ، ولا يدخل في الأفعال ، أعني : في ذواتها ، فأما في أسمائها فقد يتحقق ، ولهذا لا يتحقق ادعاء العموم في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عند من استدل على أن وقت العشاء يدخل بمغيب الشفق الأحمر ، بما روي { أنه صلى العشاء بعد مغيب الشفق } فالعموم في الأقوال دون المعاني والأفعال .

وقال أصحاب مالك : يكون العموم في الأفعال كالأقوال ، ولذلك استدلوا على أن كل فطر بمعصية يوجب الكفارة بما روي أن رجلا أفطر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة .

وقال أصحابنا : إطلاق معنى العموم يصح في الألفاظ والمعاني ، ودلائل الألفاظ من مفهوم أو دليل خطاب ، وكذلك أحوال الفعل المقضي فيه بحكم من الأحكام ، إذا ترك فيه التفصيل ; كتخيير من أسلم على أختين بينهما ، ومن أسلم على عشر باختيار أربع ولم ، نسأله عن حقيقة عقودهن وقعن [ ص: 14 ] معا أو مرتبا ، وأما نفس الفعل الواقع فلا يصح دعوى العموم فيه ، كما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد } ، لا يجوز الاستدلال على أن كل سهو يوجب السجود .

الخامس : لا خلاف أن العموم من عوارض صيغ الألفاظ حقيقة بدليل أن الأصولي إذا أطلق لفظ العام لم يفهم منه إلا اللفظ . قال في " البديع " بمعنى وقوع الشركة في المفهوم ، لا بمعنى الشركة في اللفظ ، يريد أن معنى كون اللفظ عاما حقيقة أنه يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون في معناه ، وليس معنى كون اللفظ عاما كونه مشتركا بالاشتراك اللفظي ، كالقرء بالنسبة إلى كونه حقيقة في الحيض والطهر ، بل الاشتراك المعنوي .

وقال الإبياري : قول الغزالي : إن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ لا يظن به إنكار كلام النفس ، وإنما الظن به أنه أراد به الصيغ للاحتياج إلى معرفة وضع اللغة فيها . انتهى . [ ص: 15 ]

وأما في المعاني ففيه وجهان لأصحابنا حكاهما الشيخ أبو إسحاق وغيره ، والأكثرون على أنه لا يسمى عاما حقيقة ، وإذا أضيف العموم إلى معنى كقولنا : هذا حكم عام أو قضية أو حديث عام فهو من قبيل الإطلاق المجازي ، أي لا يستحق المعنى بحق الأصل أن يوصف بالعموم ، وإنما هو بحسب الاستعارة : إما من اللفظ ، أو نظر إلى شمول مجموع أفراد المعنى المذكور لمجموع محاله ، وكذا إطلاق العموم في العلة والمفهوم ونحوهما ، فمن أطلق عليها العموم لا يناقض اختياره هنا أن المعنى لا يسمى عاما ; لأن ذلك إطلاق مجازي .

وقال ابن برهان الصحيح أنه من صفات الألفاظ ، لأنا إذا قلنا : مسلمون أو المسلمون ، عاد الاستغراق إلى الصيغة ، فإن الصيغة المتحدة هي المتناولة للكل . وقال قوم : يمكن دعوى العموم في المعاني ، تقول العرب : عمهم الخصب والرجاء وغير ذلك ، وهذا لا يستقيم ، فإن المعاني في هذه الصورة متعددة ، فإن ما خص هذه البقعة غير ما خص الأخرى . وقال إلكيا الهراسي في تعليقه " : الصحيح أنه لا يقع حقيقة إلا على الألفاظ ، لأن المعنى الواحد لا يشمل الكل ، فإن اللذة التي حصلت لزيد غير التي حصلت لعمرو . [ ص: 16 ]

وقال القاضي عبد الوهاب في " الإفادة " : الجمهور على أنه لا يوصف بالعموم إلا القول فقط ، وذهب قوم من أهل العراق إلى أنه يصح ادعاؤه في المعاني والأحكام ، ومرادهم بذلك حمل الكلام على عموم الخطاب ، وإن لم تكن هناك صيغة تعمها كقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } أي نفس الميتة وعينها ، لما لم يصح تناول التحريم لها عم التحريم جميع التصرف من الأكل والبيع واللمس وسائر أنواع الانتفاع ، وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم بعموم ولا خصوص ، وكذا قوله : { إنما الأعمال بالنيات } عام في الإجزاء والكمال ، والذي يقوله أكثر الفقهاء والأصوليين اختصاصه بالقول ، وإن وصفهم الجور والعدل بأنه عام مجاز .

وقال أبو زيد الدبوسي في " التقويم " : العموم لا يدخل في المعاني على الصحيح ; لأنه لا يتصور انتظامها تحت لفظ واحد ، إلا إذا اختلفت في أنفسها ، وإذا اختلفت تدافعت ، وهذا كالمشترك فلا عموم له ; بل هو بمنزلة المحل .

وقال : وذكر أبو بكر الجصاص أن العموم ما ينتظم جمعا من الأسامي والمعاني ، وكأنه غلط منه في العبارة دون المذهب ، فإنه ذكر من بعد أن المشترك لا عموم له ، وإنما أراد بالمعاني معنى واحدا عاما ، كقولنا : خصب عام ومطر عام .

وقال شمس الأئمة السرخسي : ذكر أبو بكر الجصاص أن العموم حقيقة في المعاني والأحكام كما هو في الأسماء والألفاظ وهو غلط . فإن المذهب عندنا أنه لا يدخل المعاني حقيقة ، وإن كانت توصف به مجازا ، [ ص: 17 ] وهذا خلاف طريقة أبي بكر الرازي ، فإنه حكي عن مذهبهم أنه حقيقة في المعاني أيضا ، واختاره ابن الحاجب ، وعمم الحقيقة في المعنى الذهني والخارجي ، ولذلك مثل بعموم المطر والخصب . ثم قال : وكذلك المعنى الكلي .

وقال الصفي الهندي : الحق هو التفصيل بين المعاني الموجودة في الخارج ، وبين المعاني الكلية الموجودة في الأذهان ، فإن عنوا بقولهم المعاني غير موصوفة بالعموم ، المعاني الموجودة خارج ، فهو حق ; لأن كل ما له موجود في الخارج فإنه لا بد وأن يكون متخصصا بمحل دون محل وحال مخصوص ، ومتخصصا بعوارض لا توجد في غيره ، وعند ذلك يستحيل أن يكون شاملا لأمور عديدة .

وإن عنوا به مطلق المعاني - سواء كانت ذهنية أو خارجية - فهو باطل ، فإن المعاني الكلية الذهنية عامة بمعنى أنها معنى واحد متناول لأمور كثيرة .

قال : ولا يجري هذا التفصيل في اللفظ ، إذ لا وجود له في الخارج ، وأما تخصيص وجوده باللساني فلا يمنع من حمله ودلالته على مسمياته . انتهى .

وقال القاضي عضد الدين : إن كان الخلاف في الإطلاق اللغوي فأمره سهل ، أي ويصير الخلاف لفظيا ، وإن كان في واحد متعلق بمتعدد فذلك لا يتصور في الأعيان الخارجية ، وإنما يتصور في المعاني الذهنية ، والأصوليون ينكرون وجودها . [ ص: 18 ]

قلت : وصرح الهندي في " الرسالة السيفية " : بأن الخلاف في اللغة ، فقال : العموم من عوارض الألفاظ خاصة بحسب الاصطلاح إجماعا ، وكذا اللغة على المختار وقيل من عوارض المعاني أيضا . انتهى . وفصل ابن برهان بين المعاني الكلية مثل : حكمة الردع في نصب القتل سببا فهي مثل الحكم يجري فيها العموم ، وبين الجزئية فلا يجري فيها العموم . وقال الآمدي في " غاية الأمل " : لعل من منع عروض العموم للمعاني لم يكن إلا لنظره إلى ما لا ينحصر منها ، وغفلته عن تحقيق معنى كليتها . فتحصلنا على ثمانية مذاهب :

أحدها : أنه لا يعرضهما مطلقا .

والثاني : وهو قول الأكثرين أنه يعرضهما مجازا لا حقيقة .

والثالث : أنه يعرضهما حقيقة بالاشتراك اللفظي .

الرابع : أنه يعرضهما حقيقة بالتواطؤ فتكون موضوعة للقدر المشترك بين اللفظ والمعنى ، وهذا والذي قبله يخرجان من كلام القرافي في كتابه " العقد المنظوم " .

والخامس : أنه حقيقة في المعاني مجاز في الألفاظ . قال الأصفهاني في " شرح المحصول " : نقله ابن الحاجب ، وهو غريب .

السادس : التفصيل بين المعنى الذهني والخارجي .

السابع : التفصيل بين المعنى الكلي والجزئي .

والثامن : الوقف وهو قضية كلام الآمدي ، فإنه أبطل أدلة [ ص: 19 ] القائلين بالحقيقة والقائلين بالمجاز ، ولم يختر منها شيئا ، فدل على أنه متوقف .

ويخرج على هذا الأصل مسائل : منها أن المفهوم لا عموم له على رأي الغزالي ; لأنه ليس بلفظ . ومنها : دلالة الاقتضاء هل هي عامة أم لا ؟ ومن ثم ينبغي تأمل كلام ابن الحاجب في أن العموم من عوارض المعاني حقيقة ، وأن المقتضى لا عموم له . ومنها : أن العقل هل يختص ؟ ومنها : سكوت النبي صلى الله عليه وسلم هل يكون دليلا عاما ؟ تنبيهات

الأول : ظهر بما ذكرناه أن المراد بالمعاني هنا المعاني المستقلة ، ولهذا مثلوه بالمفهوم والمقتضى ، لا المعاني التابعة للألفاظ ، فتلك لا خلاف في عمومها ، لأن لفظها عام .

وقال القرافي : اعلم أنا كما نقول : لفظ عام ، أي شامل لجميع أفراده ، كذلك نقول للمعنى : إنه عام أيضا ، فنقول : الحيوان عام في الناطق والبهيمة ، والعدد عام في الزوج والفرد ، واللون عام في السواد والبياض ، والمطر عام . وهذه كلها عمومات معنوية ، لا لفظية ، فإنا نحكم بالعموم في هذه الصور على هذه المعاني عند تصورنا لها ، وإن جهلنا اللفظ الموضوع بإزائها : هل هو عربي أو عجمي ؟ شامل أو غير شامل ؟ وأما عموم اللفظ فلا نقول : هذا اللفظ عام حتى نتصور اللفظ نفسه ، ونعلم من أي لغة هو ، وهل وضعه أهل تلك اللغة عاما شاملا أو غير شامل ؟ فلو وجدناه شاملا سميناه عاما ، وإن لم نجده شاملا لم نسمه عاما [ ص: 20 ] عموم الشمول ، وقد نسميه عاما عموم الصلاحية ، فقد ظهر حينئذ أن لفظ العموم يصلح للمعنى واللفظ ، وهل ذلك بطريق الاشتراك أو بطريق التواطؤ ؟ فيه ما سبق .

الثاني : أن هذا الخلاف فرضوه في العام ، ولم يجروه في الخصوص : هل هو حقيقة في المعاني أم لا ؟ ولا شك في طرده . قال المقترح : القائلون بأن العام والخاص من عوارض الألفاظ اختلفوا على مذهبين :

أحدهما : أن العام راجع إلى وصف متعلق العلم كالخبر فإنه متعلق بمخبرين والعلم بمعلومين .

والثاني : أنهما صفتان زائدتان على المعاني وهما من أقسام الكلام .

الثالث : قال القرافي : اصطلحوا على أن المعنى يقال له : أعم وأخص ، واللفظ يقال : له عام وخاص ، ووجه المناسبة أن " أعم " صيغة أفعل للتفضيل والمعاني أفضل من الألفاظ ، فخصت بصيغة أفعل للتفضيل ، وإطلاق ابن الحاجب وغيره يخالف هذا الاصطلاح .

الرابع : المعروف من إطلاقاتهم أن الأخص يندرج تحت الأعم ، ووقع في عبارة صاحب المقترح " الأعم مندرج تحت الأخص " قال بعض شارحيه : وجه الجمع أن العموم والخصوص إن كانا في الألفاظ فالأخص منهما مندرج تحت الأعم . لأن لفظ " المشركين " مثلا يتناول زيدا المشرك بخصوصه ، وإن كانا في المعاني فالأعم منها مندرج تحت الأخص ، لأن زيدا إذا وجد بخصوصه اندرج فيه عموم الجوهرية والجسمية والحيوانية والناطقية .

التالي السابق


الخدمات العلمية