صفحة جزء
[ ص: 23 ] مسألة [ القائلون ليس للعموم صيغة تخصه ] اختلفوا في أصل صيغته على مذاهب :

أحدها : وهم الملقبون بأرباب الخصوص أنه ليس للعموم صيغة تخصه ، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع للخصوص ، وهو أقل الجمع ، إما اثنان أو ثلاثة ، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة . وبه قال ابن المنتاب من المالكية ، ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفية ، وغيرهما .

وقال القاضي في " التقريب " ، والإمام في " البرهان " : يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع ، محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب . [ ص: 24 ]

وقال أبو الحسين في " المعتمد " : يشبه أن يكونوا جعلوا لفظة " من " حقيقة في الواحد مجازا في الكل . وجعلوا بقية ألفاظ العموم حقيقة في جمع غير مستغرق ; لأنه يبعد أن يجعلوا ألفاظ الجمع المعرف باللام كالمسلمين حقيقة في الواحد مجازا في الجمع ، ولفظ " كل وجميع " أبعد . [ الذين قالوا للعموم صيغة حقيقية تخصه ]

والثاني : أن له صيغة مخصوصة بالوضع حقيقة ، وتستعمل مجازا في الخصوص ، لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذر جميع الآحاد على المتكلم ، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة كألفاظ الآحاد والخصوص ; لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام كما عكسوا في الترادف فوضعوا للشيء الواحد أسماء مختلفة للتوسع ، وهو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم . قال القاضي عبد الوهاب : مذهب مالك وكافة أصحابه أن للعموم صيغة ، ومن يتتبع كلامه في " الموطإ " يجد من استدلاله بالعموم كثيرا . قال : وهو قول الفقهاء بأسرهم : وقال ابن حزم : وهو قول جميع أهل الظاهر وبه نأخذ . [ ص: 25 ] تحقيق مذهب الشافعي

وقال الصيرفي في كتاب " الدلائل والأعلام " : زعمت طائفة من أصحابنا أن مذهب الشافعي أن الآية إذا وردت ظاهرة في العموم لا يقضى عليها بعموم ولا خصوص إلا بدليل من خارج .

قال وهذا الذي قال ضده وقول الشافعي سواء ، لأنه الذي قد اشتهر به في كتبه ، وعند خصومه أن الكلام على عمومه وظاهره ، حتى تأتي دلالة تقوم على أنه خاص دون عام ، وعلى أنه باطن دون ظاهر . وقد قال ( رضي الله عنه ) في " الرسالة " : الكلام على عمومه وظاهره حتى تأتي دلالة تدل على خصوصه .

وقال أيضا ما نصه : فكل خطاب في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في كلام الناس فهو على عمومه وظهوره إلا أن يأتي دلالة تدل على أنه خاص دون عام ، وباطن دون ظاهر .

ثم قال : وإذا وجدت خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجملا ، فهو على عمومه وظاهره ، إلا أن يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يدل على أنه خاص دون عام ، وباطن دون ظاهر ، فيستدل بذلك . ثم قسم القرآن والأخبار على ذلك .

قال : فثبت من هذا أن مذهب الشافعي أن الكلام من كل مخاطب على ما اشتمل عليه الاسم ما لم يمنع من إجراء الاسم عليه دليل . ومعنى قوله : " إلا أن يأتي دلالة " يجوز على نفسه استتار الدليل من خبر أو غيره فإذا علم صار إليه ، وعلم أن الكلام كان عاما .

ثم ذكر الصيرفي نصوصا للشافعي كثيرة صريحة في ذلك ، بل قطعية فيه ، قال : والدليل القطعي قائم عليه ، وإنما يثبت هنا أن ذلك مذهب [ ص: 26 ] الشافعي ، وأني لم أقلده فيه ، لقيام البرهان عليه ، ثم بين وجه شبهة الناقلين عن الشافعي الوقف ، ثم ردها .

ثم قال : ولا يقال : إن له في المسألة قولين ، لأن هذا غير معروف ; بل المعروف بينه وبين أصحابه ما وصفت لك ، منهم : المزني ، وأبو ثور ، والبويطي ، والحسين الكرابيسي ، والأشعري ، وداود وسائر الشافعيين .

هذا كلام الصيرفي ، وعجيب نقله القول بالصيغة عن الأشعري .

وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : قال الشافعي في " الرسالة " : كل كلام كان عاما ظاهرا فهو على عمومه وظهوره ، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه إنما أراد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض .

وقال في كتاب " أحكام القرآن " : قال لي قائل : تقول الحديث على عمومه وظهوره ، وإن احتمل معنى غير العام والظاهر ، حتى يأتي دلالة على أنه خاص دون عام ، وباطن دون ظاهر ؟ قلت : فكذلك أقول .

وقال في كتاب " اختلاف الحديث " : القرآن عربي كما وصفت ، والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها ، وليس لأحد أن يحيل منها ظاهرا إلى باطن ، ولا عاما إلى خاص إلا بدلالة .

وقال الشيخ أبو حامد : وهذا صحيح ، العموم عندنا له صيغة إذا أوردت مجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس . هذا مذهبنا ، وبه قال مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وداود وأهل الظاهر ، وبه قال من المتكلمين الجبائي وطائفة . [ ص: 27 ] وذهبت طائفة إلى أن هذه الألفاظ إذا وردت فإنها تحمل على أقل الخصوص حتى يدل دليل على أن المراد بها زيادة على ذلك . ثم اختلفوا في قدر ما يحمل عليه ، فمنهم من قال : يحمل على اثنين ، ومنهم من قال على ثلاثة ، ذهب إلى هذا جماعة من المعتزلة . منهم أبو هاشم وغيره ، وذهبت الأشعرية إلى الوقف . [ الذين لا يثبتون للعموم صيغة لفظية ]

والثالث : أن شيئا من الصيغ لا يقتضي العموم ولا مع القرائن ، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم ، وهو قول جمهور المرجئة ، ونسب إلى الأشعري .

قال في " البرهان " : نقل مصنفون المقالات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية ، وهذا النقل على الإطلاق زلل ، فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ مشعرة به ، كقول القائل : رأيت القوم واحدا واحدا لم يفتني منهم أحد ، وإنما كرر هذه الألفاظ قطعا لتوهم يحسبه خصوصا ، إلى غير ذلك . وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع . انتهى .

وما ادعى فيه الوفاق فهو محل الخلاف ، صرح به في كتاب " التلخيص من التقريب " [ ص: 28 ] للقاضي ، وسيأتي . وليس مراده " بالجمع " القدر المخصوص من ثلاثة أو اثنين ، إنما مراده الشمول بدليل المثال المذكور . [ القائلون بالوقف ]

والرابع : الوقف ، ونقله القاضي في " مختصر التقريب " عن الشيخ أبي الحسن ومعظم المحققين ، وذهب إليه . وحقيقة ذلك : أنا سبرنا اللغة ووضعها ، فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم ، وسواء وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد .

وقال الإمام في " البرهان " : ومما زل فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتابعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع ، بل تبقى على التردد ، وهذا إن صح النقل فيه مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع ، كقول القائلين : رأيت القوم أجمعين ، أكتعين ، أبصعين ، فأما ألفاظ صحيحة صريحة تفرض مقيدة ، فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها . انتهى . وقد أنكر عليه المازري في إمكان النقل عن الواقفية وإن تقيدت بالقرائن . قال . وهذا منصوص عليه في كتب أئمتهم ، ولو سلم له ذلك [ ص: 29 ] فإنما . يقتضي إنكار وجود لفظة تقتضي الاستيعاب على حسب ما ذكروه . وأشار إلى أن تلك الصور إنما استفيد العموم منها بإضافة قرائن استشعرت من المتكلم بهذه الألفاظ التابعة للصيغة .

وقال أبو الحسين بن القطان : شذت طائفة من أصحابنا ، فنسبت هذا القول للشافعي لأشياء يتعلق به كلامه ; لأنه قال في مواضع من الآي : يحتمل الخصوص ويحتمل العموم ، ولم يرد الشافعي ما ذهبوا إليه وإنما احتمل عنده أن ترد دلالة تنقله عن ظاهره من العموم إلى الخصوص ، لا أن حقه الاحتمال ، وكذلك أبو بكر الصيرفي حكى قول الوقف عن الشافعي . قال : ولا يقال له في المسألة قولان . واختاره أبو الحسين البصري في بعض كتبه ، ونقل الماوردي والروياني في كتاب " الأقضية " عن الظاهرية ، الذي نقله الصيرفي عن داود القول بالصيغة . [ مذاهب الواقفية في محل الوقف ]

واختلفت الواقفية في محل الوقف على ستة أقوال ، وفي صفته على قولين .

فأما محله : فالمشهور من مذهب أئمتهم القول به على الإطلاق من غير تفصيل .

والثاني : أن التوقف في أخبار الوعد والوعيد دون الأمر والنهي ، وحكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي . قال : وربما ظن أن ذلك مذهب أبي حنيفة ، لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ، ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة ، وليس ذلك مدركه ، بل لأن الأدلة الموجبة للوعيد بالتخليد في النار إنما انتهضت في حق الكفار بدلائل من خارج . [ ص: 30 ]

والثالث : عكسه ، وهم جمهور المرجئة ، فقالوا : بصيغ العموم في الوعد والوعيد ، وتوقفوا فيما عدا ذلك .

والرابع : الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها .

والخامس : الوقف في الوعيد دون الوعد . قال القاضي : وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق .

والسادس : التفصيل بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيء من أدلة السمع وكانت وعدا أو وعيدا ، فيعلم أن المراد بها العموم وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص ، فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به ، حكاه القاضي في " مختصر التقريب " .

السابع : الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشارع منه صلى الله عليه وسلم فأما من سمع منه ، وعرف تصرفاته فيه ما بين عموم وخصوص ، فإنه لا يقف ، كذا حكاه المازري ، وهو عكس ما قبله .

الثامن : التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم ، دون ما إذا لم يتقيد ، فلفظ " الناس " مثلا ، إذا قلنا : إنه لا يعم حالة الإطلاق سلم أنه عام في مثل قولك : الناس أجمعون عن آخرهم ، صغيرهم وكبيرهم ، لا يشذ منهم أحد ، إلى غير ذلك ، حكاه القاضي . قال : والمحققون من الواقفية يقولون : وإن قيدت بهذه القيود ، فليس موضوعة للاستغراق في اللغة ، ولكن قد يعرف عمومها بقرائن الأحوال المتقربة بالمقام ، وهي مما ينحصر بالعبارة ، كما يعرف بالقرائن وجل الوجل ، وإن كانت القرائن لا توجب معرفتها ، ولكن أجرى الله العادة بخلق العلم الضروري عندنا .

والتاسع : أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم [ ص: 31 ] دون غيرهما ، حكاه المازري عن بعض المتأخرين . قال : ويمكن أن يكون هذا من أحكام الشرع في الأحكام اللغوية كأحكامه في الصلاة والحج والصوم . [ مذهب الواقفية في صفة الوقف ]

وأما صفة الوقف : فقد اختلف النقل فيه عن الشيخ وأصحابه ، فنقل عنهم مذهبان .

أحدهما : أن اللفظ مشترك بين الواحد اقتصارا عليه ، وبين أقل الجمع فما فوقه اشتراكا لفظيا ، كالقرء والعين ونحوهما ، أي أنه موضوع لهما وضعا متساويا ، حكاه المازري والأصفهاني ، وهذا فيما يحمل من الصيغ على الواحد " كمن ، وما ، وأي " ، ونحوها ، وأما ألفاظ الجموع فهي مشتركة بين أقل الجمع وبين ما فوقه اشتراكا لفظيا .

والثاني : نفي العلم بكيفية الوضع من أصله ، ويقولون : هي مستعملة للعموم والخصوص ، ولكن لا ندري هل ذلك على وجه الحقيقة أو المجاز . وحكى ابن الحاجب هذين القولين على وجه آخر .

أحدهما : أنا لا ندري هل وضعت هذه الصيغة للعموم أم لا ؟

والثاني : أنا ندري أنها استعملت للعموم ، ولكن لا ندري أذلك على وجه الحقيقة أم لا . ونقل قول الاشتراك في أصل المسألة مباينا لقول الوقف . واعلم أن الواقفية وإن قالوا : بأن اللفظ لم يوضع لخصوص ولا عموم ، [ ص: 32 ] فقالوا : إنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه ; وجعل إمام الحرمين الخلاف في غير الصيغ المؤكدة ، وأما هي فلا خلاف في اقتضائها العموم . وحكى القاضي في " التقريب " ، وتبعه هو في " التلخيص " الخلاف مع التأكيد أيضا . نعم قال بعضهم : ما يدل على العموم من الصيغ بحكم القرائن المنفصلة إما عرفا أو عقلا أو غير ذلك لا خلاف فيه ، فإن المخالف في العموم لم ينكر أن في الكلام ما يدل على العموم ، فإن العموم وقصد إفادته ضروري .

وأما المنكرون فأنكروا أن يكون للعموم صيغة خاصة موضوعة للدلالة عليه . وجعل غيره منشأ الخلاف أمرين : أحدهما : أن التأكيد بالجمع في لفظ الجمع هل إنما حسن لمكان احتمال إرادة الخصوص ، أو لكون اللفظ صالحا للاستيعاب ؟ والثاني : هو أن الاستثناء هل هو استخراج ما تتناوله الصيغة ؟ أو ما يجب دخوله تحت الصيغة ؟ أم هو استخراج ما اللفظ صالح لتناوله ؟ ومأخذ قول الوقف من أصله أن الأشعري لما تكلم مع المعتزلة في عمومات الوعيد الواردة في الكتاب والسنة كقوله : { وإن الفجار لفي جحيم } وقوله : { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها } ونحوه ، ومع المرجئة في عموم الوعد ، نفى أن يكون هذه الصيغ موضوعة للعموم ، وتوقف فيها ، وتبعه جمهور أصحابه . [ ص: 33 ]

وقال أبو نصر بن القشيري في كتابه في باب المفهوم : لم يصح عندنا عن الشيخ إنكار الصيغ ، بل الذي صح عنه أنه لا ينكرها ، ولكن قال في معارضاته في أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ . قال : سر مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما يطلب فيه القطع ، وهذا هو الحق المبين ، ولم يمنع من العمل بالظواهر في مظان الظنون ، وقد سبق أن الصيرفي حكى عن الشيخ القول بالصيغ كالشافعي . تنبيه

زعم الشريف المرتضى في " الذريعة " أن الخلاف في هذه المسألة بالنسبة إلى وضع اللغة أنه هل يقتضي الاستغراق ؟ ولا خلاف في أن الشرع يقتضيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية