صفحة جزء
[ ص: 84 ] الصيغة الأولى : " كل " ومدلولها الإحاطة بكل فرد من الجزئيات إن أضيفت إلى النكرة ، أو الأجزاء إن أضيفت إلى معرفة ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكلالة لإحاطتها بالوالد والولد ، ومعناها التأكيد لمعنى العموم ، ولهذا قال القاضي عبد الوهاب : ليس بعدها في كلام العرب كلمة أعم منها ، ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة ، تقول : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، وجاءني القوم كلهم فيفيد أن المؤكد به عام . وهي تشمل العاقل وغيره ، والمذكر والمؤنث ، والمفرد والمثنى والمجموع ، فلذلك كانت أقوى صيغ العموم ، وتكون في الجميع بلفظ واحد . تقول : كل الناس ، وكل القوم ، وكل رجل ، وكل امرأة . قال سيبويه : معنى قولهم : كل رجل : كل رجال ، فأقاموا رجلا مقام رجال ، لأن رجلا شائع في الجنس . والرجال الجنس ، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه " بكلا ، وكلتا " ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء ، فلا يقال : جاء زيد كله ، قال ابن السراج : والضابط أنها إما أن تضاف لفظا ، أو تجرد عن الإضافة ، وإذا أضيفت فإما إلى معرفة أو إلى نكرة ، فهذه أقسام .

الأول : أن تضاف إلى النكرة ، فيتعين اعتبار المعنى فيما أضيفت إليه ، فيما لها من ضمير وخبر وغيره وإن كان المضاف إليها مفردا فمفردا ومثنى [ ص: 85 ] فمثنى ، وكذلك الجمع والتذكير والتأنيث ، قال تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } { كل نفس ذائقة الموت } { إن كل نفس لما عليها حافظ } . ومعنى العموم في هذا القسم كل فرد لا المجموع ، فإذا قيل : كل رجل ، فمعناه كل فرد فرد من الرجال ، وقد يكون الاستغراق للجزئيات بمعنى أن الحكم ثابت لكل فرد من جزئيات النكرة ، قد يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما ، كقوله : { كل مشرك مقتول } ، { وكل مسكر خمر } ، وقد لا يلزم ، كقولنا : كل رجل يشبعه رغيف . وما ذكرنا من وجوب مراعاة ما أضيفت إليه مشروط بما إذا كان في جملتها ، فإن كان في جملة أخرى جاز عود الضمير على لفظها أو على معناها ، كقوله : { ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } ، فراعى المعنى في الجميع لكونه في جملة أخرى ، وعلى هذا فلا يرد اعتراض الشيخ أبي حيان على القاعدة ببيت عنترة : [ ص: 86 ]

جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم

حيث قال : فتركن ، وقياس ما قالوا : تركت ، وجوابه ما سبق ، ولأن الضمير يعود على العيون التي دل عليها كل عين ، ولا يعود على كل عين ليفيد أن ترك كل حديقة كالدرهم ناشئ عن مجموع العيون ، لا عن كل واحدة .

الثاني : أن يضاف إلى المعرفة ، والأكثر مجيء خبرها مفردا كقوله تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } . وقوله عليه السلام حكاية عن ربه : { يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته } ، وقوله : { كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته } ويجوز الجمع حملا على المعنى . وكلام الأصوليين يقتضي أن الحكم في هذه الحالة كما في التي قبلها من دلالتها على كل فرد ، وأن دلالتها فيه كلية ، واقتضى كلام بعض الأصوليين [ ص: 87 ] وابن مالك أن مدلولها في هذه الحالة المجموع فإنه جوز فيها اعتبار اللفظ والمعنى ; ولهذا جعل صاحب " البديع " من الحنفية " كل الرجال " كلا مجموعيا .

وقال ابن فورك : القائل : كل حبة من البر غير متقومة ، صحيح ، لأنه كلي عددي ، بخلاف ما إذا قال : كل الحبات منه غير متقوم ، فإنه غير صحيح ; لأن المراد المجموع ، وقد استضعف هذا منه ، فإن " كل " إذا أضيف إلى معرفة جمع كانت ظاهرة في كل فرد كما دل عليه الأمثلة السابقة .

وقد نقل ابن السراج عن المبرد في قول القائل : أخذت العشرة كلها ، أن إضافة " كل " إلى العشرة كإضافة بعضها إليها ، وأن الكل ليس المعنى الجزئي ، وإنما الكل اسم لأجزائه جميعا المضافة إليه ، واستحسن ابن السراج هذا الكلام من المبرد ، وكأن مراد ابن الساعاتي إذا أريد بها المجموع ، بدليل قوله أولا : قولنا كل شيء ليس معناه كل الشيء فإن الأول كلي عددي ، والثاني كلي مجموعي ، فالخلل إنما جاء من تمثيله بعد ذلك بكل حبة من البر غير متقومة ، وكل الحبات غير متقوم ، وهذا جمع معرف بخلاف كل شيء فإنه مفرد معرف ، والفرق بينهما ظاهر .

وقال بعض المتأخرين : الظاهر التفصيل بين أن يكون المعرفة مفردا أو جمعا ، فإن كان مفردا كانت لاستغراق أجزائه ، ويلزم منه المجموع ، ولذلك يصدق قولنا : كل رمان مأكول . ولا يصدق : كل الرمان مأكول [ ص: 88 ] لدخول قشره ، وإن كان جمعا احتمل أن يراد المجموع ، كما في قولنا : كلكم يكفيكم درهم ، وأن يراد كل فرد كقوله عليه الصلاة والسلام : { كلكم راع } ، ولذلك فصله بعد ، فقال : { السلطان راع ، والرجل راع ، والمرأة راعية } والاحتمال الثاني أكثر ، فيحمل عليه عند الإمكان ، ولا يعدل إلى الأول إلا بقرينة . وإذا دخلت " كل " على ما فيه الألف واللام وأريد كل فرد ، لأن ذلك جمع أو اسم جمع كالقوم والرهط ، فهل نقول الألف واللام هنا تفيد العموم على بابها ، و " كل " تأكيد لها ، أو أنها لبيان الحقيقة ، حتى تكون " كل " تأسيسا للعموم ؟ فيه نظر . والثاني أقرب من جهة أن " كل " إنما تكون تأكيدا إذا كانت تابعة ، دونها إذا كانت مضافة . وقد يقال : بأن الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه ، و " كل " تفيد العموم في أجزاء " كل " من المراتب . فإذا قلت : كل الرجال ، أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جمع الرجل ، وأفادت " كل " استغراق الآحاد ، فيصير لكل منهما معنى وهو أولى من التأكيد . ومن هنا يظهر أنها لا تدخل في المفرد ، والمعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم . وقد نص عليه ابن السراج في الأصول . قلت : ولهذا منع دخول الألف واللام على " كل " ، واعترض قول النحويين : بدل الكل من الكل ، ولك أن تقول : لما لا يجوز الدخول على أن " كل " مؤكدة ، كما هو أحد الاحتمالين عنده في المجموع المعرف .

قيل : ومن دخولها على المفرد المعرفة قوله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } ، وقوله عليه السلام : [ ص: 89 ] { كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه } والظاهر أن هذا من قسم المعرف المجموع ، لأن المقصود به الجنس ، فهو جمع في المعنى ، ومثله قوله عليه السلام : { كل الناس يغدو فبائع نفسه } . نعم ، إن أريد بالناس واحد صح تمثيله .

الثالث : أن تقطع عن الإضافة لفظا فيجوز فيها الوجهان : الإفراد والجمع ، قال الله تعالى : { كل له أواب } { كل آمن بالله } { كل له قانتون } . وهذا كله إذا لم يكن في حيز النفي ، فإن كانت في حيزه كان الكلام منفيا ، واختلف حكمها بين أن يتقدم النفي عليها وبين أن تتقدم هي على النفي ، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو كل القوم لم يقم ، أفادت التنصيص على انتفاء كل فرد فرد كما تقدم ، وإن تقدم النفي عليها مثل لم يقم كل القوم لم يدل إلا على نفي المجموع ، وذلك يصدق بانتفاء القيام عن بعضهم ، ويسمى الأول عموم السلب ، والثاني سلب العموم من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد ، والثاني لم يفد العموم في حق [ ص: 90 ] كل أحد ، بل إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم ، قال القرافي : وهذا شيء اختصت به " كل " من بين سائر صيغ العموم .

وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان ، وأصلها قوله عليه السلام : { كل ذلك لم يكن } ، لما قال له ذو اليدين ( أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ وقول ذي اليدين له : قد كان بعض ذلك ) ، ووجهه أن السؤال ب " أم " عن أحد الأمرين لطلب التعيين عند ثبوت أحدهما عند المتكلم على وجه الإبهام ، وإذا كان السؤال عن أحدهما فالجواب إما بتعيين أحدهما أو بنفي كل منهما ، فكان قوله : { كل ذلك لم يكن } ، لنفي كل واحد منهما ، ولكن بالنسبة إلى ظنه صلى الله عليه وسلم ، فلو كان يفيد نفي المجموع ، لا نفي كل واحد منهما ، لكان قوله : { كل ذلك لم يكن } غير مطابق للسؤال ، ولم يكن في قول ذي اليدين قد كان بعض ذلك جواب له ، فإن السلب الكلي يناقضه الإيجاب الجزئي . وقد ذكروا في سبب ذلك طرقا منه : أن النفي مع تأخر " كل " متوجه [ ص: 91 ] إلى الشمول دون أصل الفعل ، بخلاف ما إذا تقدمت فإن النفي حينئذ يتوجه إلى أصل الفعل . قال الجرجاني : من حكم النفي إذا دخل على كلام ، وكان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه ، أن يتوجه النفي إلى ذلك التقييد دون أصل الفعل ، فإذا قيل : لم يأت القوم مجتمعين ، كان النفي متوجها إلى الاجتماع الذي هو قيد في الإتيان دون أصل الإتيان ، ولو قال قائل : لم يأت القوم مجتمعين ، وكان لم يأته أحد منهم ، لقيل له : لم يأتوك أصلا ، فما معنى قولك : مجتمعين ، فهذا مما لا يشك فيه عاقل ، والتأكيد ضرب من التقييد .

التالي السابق


الخدمات العلمية