صفحة جزء
الثامن والتاسع : " من ، وما " الشرطيتين أو الاستفهاميتين . كقوله تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه } { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } وقوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } { وما تلك بيمينك يا موسى } وهما من صيغ العموم ، بل هما عند الإمام في أعلى صيغة .

قال صاحب المحكم : " من " اسم يغني عن الكلام الكثير المتناهي في التضاد والطول ، فإذا قلت : من يقم أقم معه ، كان كافيا عن ذكر جميع الناس ، ولولا " من " لاحتجت إلى ذكر الأفراد ، ثم لا تجد إلى ذلك سبيلا . أما الشرطيتان فبالاتفاق ، وأما الاستفهاميتان فكذلك عند الجمهور ، منهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وسليم الرازي في " التقريب " وابن السمعاني [ ص: 99 ] وابن الصباغ وغيرهم من أصحابنا ، وأبو بكر الرازي والبزدوي من الحنفية والقرطبي والإبياري من المالكية ، واختاره الآمدي والإمام فخر الدين والهندي . وظاهر كلام إمام الحرمين أنهما ليسا من العموم ، فإنه قيد " من " بالشرطية ، ذكره في مسألة عمومها للمذكر والمؤنث ، ومقتضى كلام الجميع أنهما إذا كانتا موصولتين فليستا للعموم ، وبه صرح الأستاذ أبو منصور البغدادي ، فقال : وإن كانتا بمعنى " الذي والتي " فهما حينئذ معرفة ، وليستا للجنس ، ولكن ربما تناولا في المعرفة واحدا وربما تناولا جمعا ، كقوله تعالى : { ومنهم من يستمعون إليك } وكذلك قال سليم الرازي في " التقريب " فإن وردا معرفتين بمعنى الذي لم يدلا على العموم ، هذا لفظه ، وهو ظاهر ، كلام القاضي عبد الوهاب في " الملخص " ، والقاضي أبي بكر في " التقريب " ، فإنهما قيدا العموم بالشرطيتين والاستفهاميتي فقط . لكن مثل الغزالي في " المستصفى " لعموم " من " بقوله عليه السلام : { على اليد ما أخذت حتى تؤديه } وهو تصريح بعموم الموصولة ، وهو [ ص: 100 ] لازم للجميع في مسألة تأخير البيان في قوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله } وسؤال ابن الزبعرى ، وعليه جرى القرافي وابن الحاجب وابن الساعاتي والصفي الهندي ، ونقله القرافي عن صاحب " التلخيص " يعني النقشواني ، وأنكر ذلك الأصفهاني ، وقال : وجدت كتاب " التلخيص " مصرحا بخلاف ذلك ، وأنهما إذا كانتا موصولتين ليستا للعموم .

وقال بعض الحنفية " من " تعم في الشرط والاستفهام عموم الأفراد ، وفي الخبر بمعنى الموصولة عموم الشمول ، فإذا قلت : من زارني فأعطه درهما استحق كل من زاره العطية ; وإذا قال : أعط من في هذه الدار درهما ، استحق الكل درهما واحدا . وقد استشكل قولنا : من للعموم بأمرين :

أحدهما : بقولنا : من في الدار ؟ فإنه يحسن الجواب بزيد ، وحينئذ فالعموم كيف ينطبق عليه زيد ؟ وذلك يقتضي أن الصيغة ليست العموم ، وكذلك : ما عندك ؟ فتقول : درهم .

وأجاب القرافي بأن العموم إنما هو باعتبار حكم الاستفهام ، لا باعتبار الكون في الدار ، والاستفهام عم جميع المراتب ، وكأن المستفهم قال : [ ص: 101 ] سألتك عن كل أحد يتصور أن يكون في الدار لا أخص سؤالي بنوع دون نوع ، والواقع من ذلك قد يكون فردا أو أكثر ، فالعموم ليس باعتبار الوقوع ; بل باعتبار الاستفهام .

الأمر الثاني : قول الفقهاء في كتاب الطلاق : إذا علق الحكم بلفظ " من " اقتضى مشروطه مرة ، ولم يتكرر الحكم بتكرر الفعل ، كما لو قال : من دخل داري فله درهم ، ودخلها مرة واحدة استحقه ، ولم يستحق شيئا آخر بدخوله بعده ، وكذا لو قال لنسائه : من دخلت منكن فهي طالق ، فدخلت واحدة منهن مرة طلقت واحدة ، ولم تطلق بدخول آخر . الجواب أن " من " وغيرها من أدوات الشرط إنما تقتضي عموم الأشخاص ، لا عموم الأفعال ، فلهذا لم يتعدد الطلاق لتعدد الدخول ، فإنها تقتضي وجود الجزاء عند وجود الشرط ، أما التكرار فلا تقتضيه ، إلا أنه قد يتحقق التكرار في بعض المواضع بواسطة قياس ، أو فهم أن الشرط علة فإن الأصل ترتيب الحكم على علته ، فلزم التكرار كقوله تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه } { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أما الألفاظ الموضوعة لعموم الأفعال فهي : " كلما ، ومتى ، وما ، ومهما " ، فإذا علق بشيء منها اقتضى التكرار .

وقد قال الأصحاب : لو قتل المحرم صيدا بعد صيد وجب لكل منهما جزاء ، وأورد عليه أن الله تعالى ذكر الجزاء في قتل الصيد ، وعلقه بلفظ [ ص: 102 ] من " بقوله : { ومن قتله منكم متعمدا } والمعلق بلفظ " من " لا يتكرر فيه الجزاء بتكرر الشرط ، نحو من دخل داري فله درهم ، لا يتكرر الاستحقاق بتكرر الدخول . وأجاب جماعة منهم الماوردي ، والمحاملي ، والجرجاني ، في باب الحج من المعاياة ، فقالوا : إنما لم يتكرر الحكم بتكرر الفعل إذا كان الفعل الثاني واقعا في محل الفعل الأول ، كالمثال السابق ، فأما إذا كان الفعل الثاني في غير محل الفعل الأول فيتكرر ، كما لو قال من دخل داري فله درهم ، وله عدة دور ، فدخل دارا له استحق درهما ، ثم لو دخل دارا أخرى استحق درهما آخر لما كانت الدار الثانية غير الأولى ، كذلك هاهنا ، لما كان الصيد الثاني غير الأول تعلق به ما تعلق بالأول ، يريد في قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } ووقع في كلام المحاملي وبعض نسخ " الحاوي " تمثيل تعدد المحل بقوله : من دخل دوري ، وهو أقرب ، وفيما قالوه نظر ; بل ينبغي في هذا أنه لا يستحق إلا عند دخوله جميع الدور ; لأن الجزاء تعلق بالجميع ، وقال " الماوردي في الحاوي " : إذا اشترك جمع في قتل صيد ، فعليهم جزاء واحد .

وقال مالك وأبو حنيفة على كل منهم جزاء لقوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء } ولفظة " من " إذا علق عليها الجزاء استوى حال الجماعة والواحد في استحقاقه ، كقوله : من دخل داري فله درهم ، فدخلها واحد استحقه ، أو جماعة استحق كل واحد منهم درهما .

قال : الماوردي : وأما عندنا فالشرط إذا علق عليه الجزاء بلفظ " من " [ ص: 103 ] إذا كان موجودا من كل واحد من الجماعة استحق كل واحد منهم جزاء كاملا ، نحو من دخل داري فله درهم ، فلكل واحد منهم درهم ، لأن الدخول موجود من كل واحد منهم . وإن كان الشرط موجودا من جماعتهم ، فالجزاء يستحق من جماعتهم دون كل واحد منهم ، كقوله : من جاء بعبدي الآبق فله درهم ، ومن شال الحجر فله درهم ، فإذا اشترك جماعة في المجيء بالآبق وشيل الحجر وجب أن يكون الجزاء مستحقا بين جماعتهم دون كل واحد منهم . واعلم أن " من " تصلح للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ; لكن هل العموم في جميع هذه المراتب أو في الآحاد ؟ فيه نظر لبعض المتأخرين ، قال : ويظهر فيما إذا قال : من دخل داري من هؤلاء فأعطه درهما ، فإن قلنا بالأول أخذ كل واحد درهما ، وإن قلنا بالثاني أخذ كل واحد درهما بدخوله وحده ، ونصف درهم بدخوله مع الآخر ، وإن دخل ثلاثة ، فعلى الأول يعطيهم ثلاثة ، لكل واحد درهما ، وعلى الثاني يعطيهم ثلاثة إلى الآحاد كل واحد درهما ، ودرهما بدخول الثلاثة ، لكل واحد ثلاثة ، وثلاثة لأن صفة الاثنينية ثلاث مرات ، فيستحقون بها ثلاثة ، لكل درهم ، فمجموع ما يستحقونه سبعة ، وعلى هذا القياس .

( تنبيه ) أطلقوا أن " من " للعموم في العقلاء ، وينبغي تقييده بشيئين : أحدهما : أن يكون الفعل الذي دخلت عليه صالحا لكل فرد [ ص: 104 ] ليخرج ، ما لو قال الأمير : من غزا معي فله دينار ، قال في " الكفاية " في باب السير : خرج منه أهل الفيء . قال الماوردي : ويخرج النساء ، بخلاف قوله : من قاتل معي فله دينار ; لأن الغزو حكم لا فعل يتوجه لأهله ، ويخرج الصبيان منها ، لأن الجعالة عقد وهي لا تصح منهم ، وكذا العبد بلا إذن السيد ، لوجود الحجر . الثاني : أن لا يكون الفعل المسند إليها لواحد ، ليخرج ما لو قال الموكل لوكيله طلق من نسائي من شئت . قال القاضي في تعليقه : لا يطلق الوكيل إلا واحدة في أصح القولين ، بخلاف ما إذا قال : طلق من نسائي من شاءت ، فله أن يطلق من شاءت الطلاق ، وجرى عليه النووي في " زوائده " في كتاب الوكالة ، والفرق أن التخصيص بالمشيئة مضاف إلى واحد ، فإذا اختار واحدة سقط اختياره ، وفي الثانية الاختيار مضاف إلى جماعة ، فكل من اختارت طلقت . وقولهم : " من " للعموم في العقلاء ، وإن أرادوا أصل وضع اللغة فصحيح ، وإلا فيجوز استعمال " من " لغير العقلاء ، وحينئذ فالعموم مراد فيها ، كقوله تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض } .

التالي السابق


الخدمات العلمية