صفحة جزء
العاشر : " أي " بشرط أن تكون شرطية أو استفهامية ، كقوله تعالى : { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } وقوله : { أيكم يأتيني [ ص: 105 ] بعرشها } ولهذا أجابه الكل عن نفسه بأنه يأتيه ، وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي ، والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في باب التأويلات من " البرهان " في قوله : { أيما امرأة أنكحت نفسها } ، وابن الصباغ وسليم الرازي والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والإمام الرازي والآمدي والهندي وغيرهم ، قالوا : ويصلح للعاقل وغيره . قال القاضي عبد الوهاب في " التلخيص " إلا أنها تتناول على وجه الإفراد دون الاستغراق ، ولهذا إذا قلت : أي الرجلين عندك ؟ لم يجب إلا بذكر واحد .

وقال ابن السمعاني في " القواطع " وأما كلمة " أي " فقيل : كالنكرة ، لأنها تصحبها لفظا ومعنى ، تقول : أي رجل فعل هذا ، وأي دار ؟ قال تعالى : { أيكم يأتيني بعرشها } وهي في المعنى نكرة ، لأن المراد بها واحد منهم . انتهى . وحاصل كلامهم أنها للاستغراق البدلي لا الشمولي ; لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم الشمولي ، فإنه قال فيما إذا قال لأربع نسوة : أيتكن حاضت فصواحباتها طوالق ، فقلن حضن ، وصدقهن ، أنه تطلق كل واحدة منهن ثلاثا وذكر غيره من العراقيين . [ ص: 106 ] وخرج لنا من هذا أنا إذا قلنا : إنها للعموم ، فهل هو عموم شمول أم بدل ؟ وجهان ، وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء ومنهم من لم يعدها في الصيغ كالغزالي وابن القشيري ، لأجل قول النحاة : إنها بمعنى " بعض " إن أضيفت إلى معرفة ، وقول الفقهاء : أي وقت دخلت الدار فأنت طالق ، لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول كما في " كلما " . والحق أن عدم التكرار لا ينافي العموم ، وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينها وبين بقية الصيغ في الاستفهام ، وقد سبق أن " من ، وما " الاستفهاميتين للعموم فلتكن " أي " كذلك .

وقال صاحب " اللباب " من الحنفية وأبو زيد في " التقويم " كلمة " أي " نكرة ، لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أيكم يأتيني بعرشها } ولم يقل يأتوني ، ولو قال لغيره : أي عبيدي ضربته فهو حر ، فضربهم لا يعتق إلا واحد ، فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم ، كقوله : أي عبيدي ضربك فهو حر ، فضربوه جميعا عتقوا ، لعموم فعل الضرب . وصرح إلكيا الطبري بأنها ليست من صيغ العموم ، فقال : وأما " أي " فهو اسم فرد يتناول جزءا من الجملة المضافة ، قال تعالى : { أيكم يأتيني بعرشها } وإنما جاء به واحد ، وقال : { أيكم أحسن عملا } . [ ص: 107 ] والعرب تقول : أي الرجل أتاك ؟ ولا تقول : أي الرجال أتاك ؟ إذ لا عموم في الصيغة . انتهى . وكذلك قال الغزالي في فتاويه " : لو قال : أي عبيدي حج فهو حر ، فحجوا كلهم لا يعتق إلا واحد ، وكذلك قال : أي رجل دخل المسجد فله درهم ، فإنه يقصر على الواحد ، وهذا بناه على أنها ليست للعموم . وقال محمد بن الحسن : إذا قال أي عبيدي ضربك فهو حر ، فضربوه كلهم عتقوا جميعا ، وإن قال : أي عبيدي ضربته فهو حر ، فضرب جماعة لا يعتق إلا واحد .

وصرح به القاضي الحسين في فتاويه " ، وفي فتاوى الشاشي أنه لا فرق عندنا بين الصورتين ، وأنهم يعتقون جميعا عملا بعموم " أي " وبذلك صرح الأستاذ أبو منصور فقال : " أي " أعم المبهمات ، وزعم أصحاب الرأي أنه على الواحد غالبا ، ولذلك قال أبو حنيفة : وأي عبيدي ضربت فهو حر ، أن ذلك يحمل على الواحد وأي عبيدي ضربك فهو حر أنه يحمل على الجميع ، لأنه أضاف الفعل الذي علق به الحرية إلى الجماعة . قال الأستاذ : وقلنا بعموم هذا اللفظ في الموضعين . انتهى . ووجه ابن يعيش وغيره من النحاة مسألتي محمد بن الحسن بأن الفعل في المسألة الأولى عام وفي الثانية خاص ، فإنه في الأولى مسند إلى ضمير عبيدي ، وهي كلمة عموم ، وفي الثانية مسند إلى ضمير المخاطب وهو خاص ، ثم قرروا أن الفعل يعم بعموم فاعله لا بعموم مفعوله من جهة أن الفاعل كالجزء من الفعل ، وهو لا يستغنى عنه ، ولا كذلك الفعل والمفعول ، لأن المفعول قد يستغني عنه الفعل ، فيلزم أن يسري عموم الفاعل [ ص: 108 ] ولا يلزم أن يسري عموم المفعول إلى الفعل .

وهذا هو الذي وجه به القاضي الحسين الفرق بينهما ، فإنه قال : فرع إذا قال : طلق من نسائي من شئت ، لا يطلق الكل في أصح الوجهين ، وإذا قال : طلق من نسائي من شاءت ، فله أن يطلق كل من اختارت الطلاق ، والفرق أن التخصيص والمشيئة مضاف بمعنى في الأولى إلى واحد ، فإذا اختار واحدة سقط اختياره ، وفي الثانية الاختيار مضاف إلى جماعة ، فكل من اختارت طلقت . نظيره ما إذا قال : أي عبد من عبيدي ضربته فهو حر ، فضرب عبدا ثم عبدا ، لا يعتق الثاني ، لأن حرف " أي " وإن كان حرف تعميم فالمضاف إليه الضرب واحد ، وإذا قال : أي عبيدي ضربك فهو حر ، فضربه عبد ثم عبد عتقوا ; لأن الضرب مضاف إلى جماعة . انتهى . وقد اعترض الإمام جمال الدين بن عمرون النحوي الحلبي وقال : لا فرق بين الصورتين والفعل عام فيهما ، وضمير الفاعل والمفعول في ذلك على حد سواء ، واستدل بقول العباس بن مرداس يخاطب النبي عليه السلام :

وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع

فإن " من " الشرطية عامة باتفاق ، والمراد عموم الفعل مطلقا ، مع أن الاسم العام هنا إنما هو ضمير المفعول المحذوف ، إذ التقدير : ومن تخفضه اليوم وهو عائد على " من " وهو الاسم العام ، وأما ضمير الفاعل فخاص ، [ ص: 109 ] وهو ضمير النبي عليه السلام ، وهذا وزان قوله : أي عبيدي ضربته ، التي ادعى فيها عدم عموم الفعل .

واختار ابن الحاجب أيضا التعميم فيهما ، وقال : نسبة فعل الشرط إلى الفاعل وإلى المفعول في اقتضاء التعميم في المشروط عند حصول الشرط وعدمه سواء ، وأن التعميم فيما وقع النزاع فيه ليس من قبيل إثبات المشروط بتكرير الشرط ، وأنه لا فرق بين : أي عبيدي ضربته فهو حر ، وأي عبيدي ضربك فهو حر ، في أنه يعتق المضروبون للمخاطب كلهم ، كما يعتق الضاربون للمخاطب كلهم واستشهد على ذلك " بمن " ، فإنه قد تساوى فيها الأمران ، قال الله تعالى : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } فإنه مساو في الدلالة على التعميم لنحو قوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } والأول : منسوب في شرطه إلى عموم المفعول وهو المصدر منازعا فيه .

الثاني : منسوب إلى عموم الفاعل وهو المتفق عليه ، إذا ثبت في " من " فكذلك في " أي " بل هي من أقوى من " من " في الدلالة على التفصيل . تنبيه

عدى الحنفية هذا إلى : أي عبيدي ضرب مبنيا للمفعول ، هكذا قاله ابن جني ; لأن الفاعل وإن لم يذكر فهو في حكم المذكور ، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } ، وقد قالوا هم فيه بالعموم أكثر منا ، لأنهم أدرجوا فيه جلد الكلب . [ ص: 110 ] تنبيه

إذا اتصلت " أي " " بما " كانت تأكيدا لأداة الشرط ، وزعم إمام الحرمين في " البرهان " في باب التأويل أن " ما " المتصلة بها للعموم في نحو : { أيما امرأة أنكحت نفسها } ، فاعتقد أنها " ما " الشرطية ، وهو وهم ، وقد قارب الغزالي في " المستصفى " هناك فجعلها مؤكدة للعموم ، هو أقرب مما قاله الإمام إلى الصواب ، لكن الصواب أنها توكيد لأداة الشرط ، وهو عند النحويين من التوكيد اللفظي كأنه كرر اللفظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية