صفحة جزء
السابعة : إن كانت النكرة مثبتة لم تعم ، هذا هو المشهور وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الأكثرين ، وقال أصحابنا : ليس الاعتبار بالنفي ، ولا الإثبات ، ولكن كل نكرة لا تحتمل الاستثناء فهي غير عامة على الاستغراق ، وإن صح عمومها على البدل ، وكل نكرة تحتمل الاستثناء فهي عامة ا هـ .

وأما نحو : { علمت نفس ما أحضرت } ، وحديث : { صلاة في مسجدي هذا } ، فغير ما نحن فيه ، لأن الحكم [ ص: 159 ] فيه على الماهية من حيث هي ، فجاء العموم فيه بالعرض ، وليس فيه عموم حقيقي إذ لا أفراد تحت مطلق الماهية حتى يعمها .

وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة " : النكرة قبل دخول " أل " عليها تفيد العموم على الصلاح ، وعليه حمل قوله تعالى : { فتحرير رقبة } { فتيمموا صعيدا طيبا } { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا } ولهذا قالوا : لو قال السيد لعبده : بالباب رجال ، ائذن لرجل ، صلح ذلك لكلهم على البدل ، ولم يحتج إلى الاستفهام أيهم أراد . ا هـ .

وعلى الأول فيستثنى صور تعم فيها مع الإثبات لقرينة على خلاف فيه : منها : وقوعها في سياق الشرط ، كقوله تعالى : { إن امرؤ هلك } { وإن امرأة خافت } ، ذكره القاضي أبو بكر وإمام الحرمين ، وابن القشيري ، والغزالي في " المنخول " ، ويدل له قوله تعالى : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } والسبب فيه أن الشرط لا اختصاص له ، فأشبه النفي وقرره المازري ، وفي الحقيقة ليس هذا نقضا ، لأن الشرط في معنى الكلام المنفي ; لأن المشترط لم يجز وقوع الشرط ، حيث جعله شرطا ، وإنما مرادهم بالنكرة في سياق الثبوت المحض ، كقولنا : في الدار رجل ونحوه ، وأما النهي والشرط ، والاستفهام فهو عند النحاة كله كلام غير موجب ، مع أن الإبياري في شرح البرهان " رد عليه حيث مثل بقوله : من يأتني بمال فأكرمه ، وأنكر العموم ، فقال : لو كانت لما استحق [ ص: 160 ] الإكرام من أتى بمال واحد ، بل كان يفتقر إلى الإتيان بجميع الأموال ، كما لو قال : من جاءني بكل مال ، وكأن هذا منه اعتراض على المثال ، لا الاستثناء .

وقال غيره : النكرة هنا لم تقتض عموما إذ المطلوب مال معين ، وإنما العموم في سياق الشرط . لا في متعلق الشرط ، ولا يلزم من عموم الشرط عموم ما وقع في مساقه ، فإذا قلت : من يأتني بزيد فالعموم في الآتي لا في المأتي به .

والحق أن النكرة في سياق الشرط لا تتناول الآحاد عموما ، وإنما تتناولها على البدل ، ولو كانت عاما في الشرط لعمت مع الأمر ، إذا قال : ائتني بثوب ، فلو أتاه بثوب واحد لكان ممتثلا ولو أتاه بعشرة كان حائدا عن المطلوب ، فلو كان لفظ الثوب يتناول العشرة لما عد مخالفا .

ومنها : الواقعة في حيز الإنكار الاستفهامي ، فإنها للعموم كالنفي ، ذكره الغزالي والقرافي ، كقوله تعالى : { هل تعلم له سميا } { فهل ترى لهم من باقية } .

ومنها : الواقعة في سياق الامتنان ، ذكره القاضي أبو الطيب في تعليقه ، وذكره ابن الزملكاني في البرهان " لكن أخذه من قول البيانيين : إن النكرة تأتي للتكثير ظنا منه أن التكثير هو التعميم أو ملازمه ، وليس كذلك ، وممن صرح بأنها للتكثير الزمخشري في قوله تعالى : { فيها عين جارية } .

ومنها : الواقعة في سياق الطلب كقوله تعالى : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } فإن حسنة نكرة مراد بها التعميم ، ولهذا كان من جوامع الأدعية . [ ص: 161 ]

ومنها : في الأمر للعموم ، ونسبه في المحصول " للأكثرين ، نحو أعتق رقبة ، وإلا لما خرج عن العهدة بأي إعتاق ، واستشكله بعض المتأخرين ، وقال : هذا الدليل بعينه يدل على أنها ليست للعموم ، لأنها لو كانت للعموم لما خرج عن العهدة إلا بإعتاق رقاب الدنيا ، كقوله تعالى : { اقتلوا المشركين } حيث يجب قتل جميع المشركين . والصواب أنها لا تعم ، وبه صرح أبو الحسين بن القطان في كتابه ، فقال : إذا قال الحكيم : اقتل مشركا لم يعقل منه إلا قتل مشرك ما ، قال : يجب الوقف حتى يقترن به البيان ، لجواز أن يكون أراد به المشرك الذي صفته كذا ، فلا بد من دليل ، وقيل : إذا حمل على الجنس خص ، ووقف فيه ، وهو قول أهل العراق . انتهى .

والظاهر أنه مطلق ، ولو قام دليل على التقييد لم يكن مخالفا ولا مخصصا ، والحق أن الخلاف في عموم النكرة في الإنشاء لفظي ، لأن القائل بالعموم لا يريد شمول الحكم لكل فرد ، حتى يجب في مثل : { أن تذبحوا بقرة } ، ذبح كل بقرة . وفي مثل : { فتحرير رقبة } ، تحرير كل رقبة بل المراد ذبح أي بقرة كانت ، وعتق أي رقبة كانت ، فإن سمي مثل هذا عاما فباعتبار أن تصوره لا يمنع الشركة فيه ; وإن جعل مستغرقا فكل نكرة كذلك ، وإلا فلا جهة للعموم .

ومنها : قالت الحنفية : قد تعرضت النكرة للعموم ، فيما إذا وصفت بصفة عامة ، فإنها تصير معرفة ، لأن الوصف من التعريف بمنزلة اللام في اسم الجنس ، ومثلوه بقولهم : لا أكلم إلا رجلا كوفيا ، فإن له أن يكلم جميع الكوفيين ولو قال : إلا رجلا ، فكلم رجلين حنث فعلم أن [ ص: 162 ] العموم من إلحاق الوصف العام بهذا .

وكقوله تعالى : { ولعبد مؤمن خير من مشرك } لأنه في معرض التعليل لقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } فلو لم تكن العلة عاما لما صح التعليل ، وكذا { قول معروف } قالوا : والمراد بالوصف المعنوي ، لا النعت النحوي ، لأن الكلمة النكرة قد تكون خبرا أو صلة أو شرطا ، وقد صرحوا في قوله تعالى : { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } أنها نكرة وصفت بحسن العمل ، وهو عام فعمت لذلك ، ولا خفاء في أنها مبتدأ ، وأحسن عملا خبره .

وقد رد عليهم بما نص عليه محمد بن الحسن في الجامع الكبير " أنه لو قال : لأكلمن رجلا كوفيا بر بواحد ، ولو اقتضى الوصف العموم كما قالوه لما بر إلا بالجميع ، ولأن الوصف المذكور ليس للتعميم ; بل لبيان المراد بالنكرة ، فإن النكرة فيها أمران : النوع ، والوحدة ، فإن الرجل يذكر في مقابلة المرأة ، فيراد به النوع ، وفي مقابلة الرجلين فيفيد الوحدة مع النوع ، وكل منهما أعم من الكوفي وغيره فإذا قال : كوفيا ، احتمل أن يكون مفيدا للوحدة ، فلا يكلم إلا واحدا كوفيا ، ويحتمل أن يكون مفيدا للنوع فلا يكلم إلا النوع الكوفي فإن نوى أحدهما اتبع ، وإن أطلق فالمتجه حمله على الوحدة ، ويحنث بالاثنين .

وقد فرعوا على هذه القاعدة المسألة السابقة في : أي عبيدي ضربك فهو حر ، فضربوه جميعا عتقوا ، وأي عبدي ضربته فهو حر ، فضربهم جميعا لا يعتق إلا واحد منهم ، والفرق أنه وصف في الأول بالضرب ، وهو عام ، وفي الثاني قطع عن الوصف ، لأن الضرب إنما أضيف إلى المخاطب لا إلى [ ص: 163 ] النكرة التي يتناولها أي ، وهو عجيب ، فإنه إن كان المراد بالوصف النعت النحوي فلا نعت في شيء من الصورتين ، إذ النكرة صلة أو شرط ، لأن أيا هنا موصولة أو شرطية باتفاق النحاة ، وإن كان المراد الوصف المعنوي فأي موصوف في الصورتين ; لأنه كما وصف في الأولى بالضاربية للمخاطب ، وصف في الثانية بالمضروبية له ، فالقول بأن الأول وصف ، والثاني قطع عن الوصف تحكم ، إلا أن يوما في قولك : لا أقربكما اليوم ، أقربكما فيه عام بعموم الوصف ، مع أنه مسند إلى ضمير المتكلم .

وأجاب صاحب الكشاف بأن الضرب قائم بالضارب ، فلا يقوم بالمضروب لامتناع قيام الوصف الواحد بشخصين ، بخلاف الزمان فإن الفعل متصل به حقيقة ، فيجوز أن يصير اليوم عاما به ، وأيضا " المفعول به " فضلة ثبت ضرورة ، فيقدر بقدر الضرورة ، لا يظهر أثره في التعميم بخلاف المفعول فيه ، فإنه صرح به ، وقصد وصفه بصفة عامة .

وفيه نظر ، أما أولا فلأن الضرب صفة إضافية لها تعلق بالفاعل ، وبهذا الاعتبار هو وصف له ، وتعلق بالمفعول به ، وبهذا الاعتبار هو وصف له ، ولا امتناع في قيام الإضافات بالمضافين . وأما ثانيا فلأن الفعل المتعدي يحتاج إلى المفعول في التعقل والوجود جميعا ، وإلى المفعول فيه في الوجود فقط ، فاتصاله بالأول أشد ، وأثر المفعول به هاهنا إنما هو في ربط الصفة بالموصوف لا في التعميم ، وكونه ضروريا لا ينافي الربط ، ولو سلم فالفاعل أيضا الضرورة ، فينبغي أن يظهر أثره في التعميم ، وكونه غير فضلة لا ينافي الضرورة بل يؤكدها .

التالي السابق


الخدمات العلمية