صفحة جزء
التاسعة : إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون قاصرا ، فهل يتضمن ذلك المصدر فيكون نفيه بمصدره ، وهو نكرة في سياق النفي فيقتضي العموم ، أم لا ؟ حكى القرافي عن الشافعية والمالكية أنه يعم ، وأن القاضي عبد الوهاب في الإفادة " نص على ذلك ، وظاهر كلام إمام الحرمين والغزالي والآمدي والهندي ، حيث قيدوا الخلاف الآتي بالفعل المتعدي إذا نفي هل يعم مفاعيله ؟ يقتضي أن اللازم لا يعم نفيه ولا يكون نفيا للمصدر .

وقال الأصفهاني : لا فرق بينهما ، والخلاف فيهما على السواء ، لكن الغزالي حيث صور المسألة بما سبق ، مثل بما إذا قال : والله لا أضرب ، أو إن ضربت فأنت طالق ، ونوى الضرب بآلة بعينها ، أو إن خرجت فأنت طالق ، ونوى مكانا بعينه ، وهو يخل بترجمة المسألة كما قاله الهندي ، لأن الضرب والخروج غير متعد إلى الآلة والمكان . اللهم إلا أن يريد بقوله [ ص: 167 ] المتعدي إلى مفعول أعم من أن يكون متعديا بنفسه أو بالحرف ، سواء كان معه الحرف أو لم يكن ، وحينئذ فيشمل الخلاف الأفعال كلها ، ثم إنه أطلق الفعل ولا بد من تقييده بالواقع في حيز النفي أو الشرط لا الإثبات فتفطن له ، وذكر الهندي أن ذلك في قوة نفي المصدر ، وقضيته أنه ليس مثله ; بل أنزل منه درجة .

والصواب أنه يعم كما في نفي المصدر ، مثله قوله تعالى : { لا يموت فيها ولا يحيى } { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } الآية ، ولا ريب أن النفي في هذا وأمثاله للعموم ، وأن المفهوم منه أنه نفي كما لو قال : لا حياة ولا موت ، ولهذا لو حلف لا يبيع ولا يطلق حنث بأي بيع كان ، وأي طلاق كان ، لأنه لم يفهم منه إلا نفي أفراد هذا الجنس من البيع أو الطلاق ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فوجب أن يكون نفي الفعل حقيقة في عموم نفي جميع المصادر وهو المطلوب .

والثاني : أن يكون متعديا ووقع في سياق النفي أو الشرط ، ولم يصرح بمفعوله ، ولم يكن له دلالة على مفعول ، لا واحد ، ولا أكثر ، فهل يكون عاما فيها أم لا ؟ كما إذا قال : والله لا أكلت ، أو لا آكل ، أو إن أكلت فعلي كذا ، فذهب الشافعية ، والمالكية وأبو يوسف وغيرهم إلى أنه عام فيه .

وقال أبو حنيفة : لا يعم واختاره القرطبي من المالكية ، [ ص: 168 ] والإمام الرازي منا ، وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة ، نحو يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالعموم ولا بالخصوص ; لأن هذه الأفعال لما لم تقصد مفعولاتها تبين أنه قصد بها ماهيات تلك الأفعال المجردة عن الوحدة والكثرة ; بل وعن القيود المكانية والإضافية .

وحجة الأولين أن أصل وضع هذه الأفعال لتدل على ماهيات مقيدة بالمحال التي هي المفعولات كما وضعت لتدل على الفاعل ومع ذلك فقد يحذف الفاعل في بعض المواضع ، ويصير كأنه لم يوضع له الفعل ، كما فعلوا في باب إعمال المصدر ، كقوله تعالى { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما } وتظهر فائدة الخلاف في التخصيص بالنية ، فعند أصحابنا لو نوى به مأكولا معينا قبل ، ولا يحنث بأكل غيره بناء على عموم لفظه ، وقبول العام للتخصيص ببعض مدلولاته كسائر العمومات ، فصح أن ينوي في هذه الأفعال ما كان أصلا لها مع كونه محذوفا لفظا ; لأنها صالحة له وضعا ، ولا يقبل عند الحنفية ; لأن التخصيص فرع ثبوت العموم ولا عموم .

وقد قال الرافعي في كتاب " الأيمان " لو حلف لا يساكن في الدنيا ، ونوى البلد فهل يحمل عليه أو لا ، إذ ليس بمساكنة ، فلا تعمل النية المجردة ؟ وجهان .

وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا : إنه لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولا له على جهة الجمع ، بل على جهة البدل . قال : وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة ، ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازعه . قال : وإذا التفت إلى هذا ارتفع الخلاف .

وقال الإمام فخر الدين : نظر أبي حنيفة في هذه المسألة دقيق ، لأن [ ص: 169 ] النية لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو غيره ، والأول باطل ، لأن الملفوظ هو الأكل وهو ماهية واحدة لا تقبل التعدد فلا تقبل التخصيص ، فإن أخذت مع قيود زائدة عليها تعددت ، وحينئذ تصير محتملة للتخصيص ، لكن تلك الزوائد غير ملفوظ بها فالمجموع الحاصل من الماهية غير ملفوظ ، فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ ، وهذا هو القسم الثاني ، وهو إن جاز عقلا لكنه باطل شرعا ، لأن إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى غيره أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول فيه . وإضافتها إلى هذا اليوم وذاك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه ، ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالزمان والمكان لم يصح ، فكذا التخصيص بالمفعول به ، والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم التمييز . هذا كلامه .

والنظر الدقيق إنما هو لأصحابنا ، وما ذكره الإمام مدخول ، وقوله : الأكل ماهية واحدة لا تقبل التعدد مسلم ، ولكن مع قرينة دخول حرف النفي لا نسلم أنه لا دلالة له على التعدد ، سلمنا أن الملفوظ لا يقبل التخصيص فغير الملفوظ يقبله .

وأجيب عما ذكره من القياس بوجهين :

أحدهما : بالمنع ، فإنه يجوز تخصيص النية بالمكان والزمان ، كما يجوز بالمأكول المعين بلا خلاف ، وقد نص الشافعي على أنه إذا قال : إن كلمت زيدا فأنت طالق ، ثم قال : أردت شهرا ، أنه يصح ويقبل منه ، بلا فرق . [ ص: 170 ]

وثانيها : أن قياس المفعول به على المفعول فيه ظاهر التعسف ، لأن المفعول به من مقومات الفعل في الوجود ، لأن أكلا بلا مأكول محال ، وكذا في الذهن فهم ماهية الأكل دون المأكول مستحيل ، فإلزام الأكل للمأكول واضح .

وأما الزمان والمكان فليسا من لوازم ماهية الفعل ، ولا من مقوماته ، بل هما من لوازم الفاعل ، ولا شك أن دلالة الفعل على المفعول به أقوى من دلالته على المفعول فيه .

وقال محمد بن يحيى في تعليقه : الخلاف المفهوم من اللفظ منحصر في ثلاثة أقسام : ما وضع له اللفظ كاسم البيت للبيت ، وما دل عليه اللفظ ، وما تضمنه كدلالة اسم البيت على السقف والحائط ، وما لزمه لضرورة الوجود ، ككونه ذا ظل واقع عند طلوع الشمس .

فمثال الأول : دلالة لفظ الأيمان على معناه . ومثال الثاني : دلالة الطلاق على المطلق والمطلقة . ومثال الثالث : دلالته على زمان الطلاق ومكان المطلق .

أما الموضوع فيحتمل النية بالإجماع كلفظ العين والقرء إذا نوى به مسمياته ، وأما اللازم فلا يحتملها كما إذا نوى زمان الطلاق ومكانه ، وأما المدلول فمحل الخلاف ، ولهذا اختلف الأصوليون في أن من قال : والله لا آكل ونوى بعض المأكولات ، هل يخص به يمينه ، فإن المأكولات التي يتعلق بها الأكل كثيرة وغير ملفوظة وضعا ؟ وهل يقوم عموم المدلول مقام عموم اللفظ حتى يحتمل التخصيص بنيته ؟ اختلفوا فيه مع اتفاقهم على أن تعيين زمان الأكل لغو في نيته ، والصحيح إلحاق المدلول بالموضوع ، فإنه مراد اللافظ بلفظه ، فله أن يتصرف فيه بنيته بخلاف ما ذكروه من المقتضى ; [ ص: 171 ] فإنما يضمر لضرورة لصحة الكلام أو صدق المتكلم ولا دلالة للفظ عليه تنبيهات

الأول : ما حكيناه عن أبي حنيفة في هذه المسألة هو المشهور ، ولهذا قالوا : لو قال : إن تزوجت أو أكلت أو شربت أو سكنت أو لبست أو اغتسلت ، ونوى شيئا دون شيء لا يصدق ; لأنه نوى التخصيص في الفعل ، والفعل لا عموم له

قال السروجي : قد قال : أصحابنا في تخصيص الفعل أربع مسائل : إذا قال لها طلقي نفسك ، ونوى الثلاث صحت نيته ، وإذا قال : إن خرجت ، ونوى السفر صدق ، وإذا قال : إن ساكنتك في هذه الدار ، ونوى أن يكون في بيت منها غير معين صدق . وإذا قال : إن اشتريت ، ونوى الشراء لنفسه صدق .

قال : ووجه خروج هذه المسائل عن هذا الأصل أن في قوله : طلقي نفسك ، المصدر فيه محذوف ، أي افعلي فعل الطلاق ، والمحذوف له عموم ، لأنه من باب اللغة لا من باب الضرورة ، والمعنى فيه أن الأمر طلب إدخال المصدر في الوجود ، لأن الأمر طلب الفعل من الفاعل المخاطب ، بخلاف حرف المضارعة ، وهو فعل فيه طلب المصدر وإدخاله في الوجود ، فكان أدل على المصدر من مجرد الفعل كالماضي والمضارع . قال : وبالتخريج الثاني أجبت قاضي القضاة تقي الدين بن رزين الشافعي [ ص: 172 ] لما سألني عن الفرق بين طلقتك وطلقي نفسك . وأما الجواب عن قوله : إن خرجت ، أن بهذا الفعل شيوعا يقال : خرج فلان إلى السفر ، وخرج من بيته وداره من غير سفر ، فكان السفر يحتمل كلامه في المسجد ، وأما مسألة المساكنة فالمفاعلة تقع من اثنين في الدار ، وهي في بيت منها أكمل ، فقد نوى النوع الكامل فيصدق ، وأما مسألة الشراء ، فالشراء أصالة هو الأصل ، فكان أقوى ، فجاز تخصيصه من اشتريت ، ونظيره عن محمد : لا يتزوج ، ونوى عربية أو حبشية دين في الجنس ، ولو نوى كوفية أو بصرية لا يقبل ، لأن تخصيص المكان قلما يعتبر .

الثاني : أن الغزالي حكى عن الحنفية أنهم ردوا هذه المسألة إلى أنها من قبيل المقتضى ، والمقتضى لا عموم له في تقدير ما يصح به الكلام فكذلك هذه ، كما أن مثل قوله عليه السلام : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان } يستدعي مقدرا ليصح به الكلام ، ثم رد الغزالي هذا بالفرق بينهما من جهة أن المصدر في المقتضى إنما هو ليتم الكلام به ويكون مفيدا ، ولا كذلك المفعول ، فإن الفعل يدل عليه بصيغته ووضعه ، فالأكل يدل على المأكول .

وهذا صحيح أعني دلالة المصدر على المأكول مطلقا ، لكن من جهة مقتضاه لا من جهة صيغته ، وقوله : إن الفعل المتعدي يدل على المفعول بصيغته ووضعه ممنوع ، فقد قال النحويون : الأفعال كلها المتعدية [ وغيرها ] تدل على المصدر والفاعل وظرف الزمان والمكان والحال [ ص: 173 ] والمفعول من أجله وغير ذلك ، وتدل المتعدية على المفعول به ، لكن دلالتها على الأشياء تختلف ، فدلالتها على المصدر وظرف الزمان المعين دلالة بالوضع ، لأنها تدل على المصدر بلفظها ، وعلى ظرف الزمان المعين بصيغتها ، ودلالتها على الباقي بالمقتضى لا بالوضع ، ثم إن دلت على المصدر بالوضع ، فإنها تدل عليه مطلقا ، كدلالة أكل ويأكل على الأكل ، ولا تدل على أنواع الأكل كالخضم والقضم ، ولا يدل على أشخاص أنواعه كخضم زيد وقضم عمرو ، فدلالتها على المصدر المطلق وعلى تفاصيله مجمل ، ولذلك تدل بصيغتها على الزمان الماضي والمضارع مطلقا ، كدلالة أكل على الماضي ، ولا يدل على أمس المعين وعام أول ، ودلالة يأكل على المضارع ، ولا يدل على اليوم وغدا ، فدلالتها على الماضي المطلق أو المضارع المطلق نص ، ودلالتها على أجزاء كل منها مجمل .

وقد أورد على الحنفية مواقفهم على نية التخصيص فيما لو صرح بالمصدر ، فقال : لا آكل أكلا ، فالفعل دال عليه فلا فرق بين التصريح به وعدمه ، وأجابوا بأن المصدر الثابت لغة في قوله : لا آكل هو الدال على الماهية لا على الأفراد ، بخلاف لا آكل أكلا ، فإنه نكرة في موضع العموم ، فيجوز تخصيصه بالنية ، ويرد عليه بأنهم حنثوه بكل أكل فيما إذا لم يصرح بالمصدر ، ولو لم يكن عاما لما توجه ذلك ، وغاية ما قالوا في توجيهه أن قوله : لا آكل معناه لا أوجد ماهية الآكل ، وهو ينتفي بانتفاء فرد من أفراده ، وقد اعترض القرافي على فرق الغزالي بأن منع عموم المقتضى لأجل أن صحة الكلام يتم بتقدير واحد ، فيقتصر عليه ، ولا يحتاج إلى غيره ، فلا عموم ، وهكذا يقال في هذه المفاعيل ، وهذا لا يجيء على طريقة الحنفية ، فإنهم يمنعون من دلالته على مفعول ألبتة ، ثم هو بناء على أن المقتضى لا عموم له وهي مسألة خلاف . [ ص: 174 ] فوائد

الكلام المطلق إذا نوي به مقيد ، كالكلام في العام إذا نوي به الخاص ، وقد رده القرافي في هذه المسألة إلى المطلق بناء على قاعدته أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمان والأمكنة . قال : فتكون المسألة مع الحنفية في أن تقييد المطلق هل يجوز في غير الملفوظ أي فيما دل عليه التزاما أم لا ؟ وقد سبق رد هذه القاعدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية