صفحة جزء
[ ص: 192 ] تنبيهات [ محل الخلاف في مسألة أقل الجمع ]

الأول : استشكل ابن الصائغ النحوي ، والقرافي محل الخلاف في هذه المسألة ، فقال ابن الصائغ في شرح الجمل : الخلاف في هذه المسألة إن كان المراد به الأمر المعنوي ، فلا شك في أن الاثنين جمع ، لأنه ضم أمر إلى آخر ، وإن كان المراد أنه إذا ورد لفظ الجمع ، فهل ينبغي أن يحمل ؟ فلا شك أن الأصل فيه ، والأكثر إطلاق لفظ الجمع على الثلاثة فصاعدا ، وهو قول أئمة اللغة ، ويكفي فيه قول ابن عباس لعثمان : ليس الإخوة أخوين بلغة قومك ، وموافقة عثمان له ، حيث استدل بغير اللغة . ونص سيبويه على أنه يجوز أن يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع ، مع أن للتثنية لفظا وحمله عليه قوله تعالى : { لا تخف خصمان } ، لأن الخطاب وقع لداود عليه السلام من اثنين وقوله تعالى : { فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } وقال ابن خروف . يحتمل أن يكون ضمير معكم لهما ولفرعون ، وبه جزم ابن الحاجب .

وقال السيرافي في قوله في الآية الأخرى : ( إنني معكما ) يدل على ما قاله سيبويه ، وأيضا فالمعنى وأنا معكم في النصرة والمعونة ، فلا يصلح أن يشركهما فرعون في ذلك .

وأما القرافي فأطنب في إشكال هذه المسألة ، وقال : إن له نحوا من عشرين سنة يورده ، ولم يتحصل عنه جواب ، وهو أن الخلاف في هذه [ ص: 193 ] المسألة غير منضبط ، لأنه إن فرض الخلاف في صيغة الجمع الذي هو " ج م ع " امتنع إتيانه في غيرها ; بل صرحوا بعدم مجيئه فيه ، بل الخلاف في مدلوله ، وحينئذ فمدلولها ما يسمى جمعا ، وصيغ الجموع شيئان : جمع قلة ، وجمع كثرة ، واتفق النحاة على أن جمع القلة موضوع للعشرة فما دونها إلى الاثنين والثلاثة على الخلاف ، وجمع الكثرة موضوع لما فوق العشرة .

قال الزمخشري وغيره وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر ، وتصريحهم بالاستعارة يقتضي أن كلا منهما مستعمل في معنى الآخر مجازا ، فإن جمع الكثرة موضوع لما فوق العشرة ، فإذا استعمل فيما دونها كان مجازا ، وإن كان الخلاف في جمع الكثرة لم يستقم ، لأن أقل الجمع على هذا التقدير أحد عشر ، وإطلاقه على الثلاثة حينئذ مجاز .

والبحث في هذه المسألة ليس في المجاز ، فإن إطلاق لفظ الجمع على الاثنين لا خلاف فيه ، إنما الخلاف في كونه حقيقة ، بل لا خلاف في جواز إطلاق لفظ الجمع وإرادة الواحد مجازا ، فكيف الاثنان ؟ وإن كان الخلاف في جمع القلة ، وهو المتجه ، لأنه موضع للعشرة فما دونها ، فيجوز أن يقال : أقله اثنان ، لكن لا يجوز أن يكون هذا مرادهم ، لأنهم ذكروا تمثيلهم في جموع الكثرة ، فدل على أن مرادهم الأعم من جمع القلة وغيره وقد حكى الأصفهاني عنه هذا الإشكال ، ثم قال : والحق أن الخلاف يجوز مطلقا سواء كان جمع قلة أو كثرة ، ونقول : جمع الكثرة يصدق على ما دون العشرة حقيقة ، وأما جمع القلة فإنه لا يصدق على ما فوق العشرة .

قال : وإن ساعد على ذلك منقول الأدباء فلا كلام ، وإلا فمتى خالف فهو محجوج بالأدلة الأصولية الدالة على عموم الجمع على الإطلاق ، ولا يمكن ادعاء إجماعهم على خلاف ذلك ا هـ .

ويقدح في ذلك نقل القرافي عن ابن الأعرابي والزمخشري وغيرهما أن [ ص: 194 ] جمع الكثرة لا يستعمل فيما دون العشرة إلا مستعارا .

ويشهد لما قاله القرافي من تخصيص الخلاف بجمع القلة ما نقله إلكيا عن إمام الحرمين ، وقد سبق ، لكن كلام إلكيا يخالفه ، وأيضا فقد قال أصحابنا : لو قال له علي دراهم قبل تفسيره بثلاثة مع أنه جمع كثرة .

الثاني : أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو حيث قامت قرينة على أنه لم يرد بالجمع الاستغراق ، أما مطلق الكلام عند المعممين فحقيقة في الاستغراق قاله إلكيا الطبري ، وهذا أخذه من شيخه إمام الحرمين ، فإنه قال : هذه المسألة لا حاجة إليها ، إلا إذا قامت المخصصات ، وإلا فالألفاظ للعموم عند فقدان أدلة التخصيص .

ونازعه الإبياري وقال : إنه غير صحيح لا على أصله ، ولا على أصل غيره ، أما أصله فإنه يرى أن الألفاظ عند التنكير لأقل الجمع فإذا لم يعرف أقل الجمع كيف يحكم بأن الألفاظ مقتصرة عليه ؟ وكذلك نقول في جمع القلة ، وإن عرف أنه لأقل الجمع ، فلا بد إذن من بيان أقل الجمع بالنسبة إلى جمع المذكر ، وإلى جمع القلة وإن عرف ; وأما على رأي الفقهاء فإنهم مفتقرون إلى ذلك فيما يتعلق بالإقرار والإنكار ، والإلزام والالتزام والوصايا وغيرها .

وذكر بعض شراح اللمع أنه لا خلاف في جواز الكناية عن الاثنين بلفظ الجمع ، ولكن الخلاف هل هو حقيقة في الاثنين أو مجاز ، على الوجهين ؟ .

الثالث : استثنى النحويون المشترطون للثلاثة التعبير عن عضوين من جسدين بلفظ الجمع ، نحو { فقد صغت قلوبكما } [ ص: 195 ] لقصد التخفيف . فإنه لو قيل قلباكما لثقل اجتماع ما يدل على التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة مرتين ، وشرطوا أن يكون ذلك الشيء متصلا كالكبد والطحال ، وقد سبق أصل هذا الاستثناء في كلام إمام الحرمين .

الرابع : قال القاضي المسألة عندي من مسائل الاجتهاد لا من مسائل القطع ، فيكفي فيها الظنيات .

الخامس : قال الأستاذ أبو منصور : تظهر فائدة الخلاف في هذه المسألة في موضعين .

أحدهما : فيمن أوصى بشيء للفقراء أو لجيرانه ، وكانوا غير محصورين ، فهل يفرق على ثلاثة أو اثنين على هذا الخلاف ؟

الثاني : أن من قال : إن أقله ثلاثة ، أجاز تخصيص الجمع إلى أن ينتهي الباقي منه بعد التخصيص ، وإن كان الباقي منه بعد التخصيص أقل من ثلاثة كان ذلك نسخا ولم يكن تخصيصا ; ومن قال : أقله اثنان أجاز التخصيص فيه إلى أن يكون الباقي اثنين ، ولا يكون ذلك نسخا عنده . فإن بقي منه واحد فقد صار منسوخا يعني على القولين . وقد ذكر هاتين الفائدتين أيضا الإمام في التلخيص و البرهان " ، فقال في التلخيص : فائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى بماله لأقل من يتناوله لفظ المساكين ، هل يصرف لاثنين أو ثلاثة ؟ وقال في " البرهان " : ذكر بعض الأصوليين من آثار هذا الخلاف أن الرجل إذا قال لفلان علي دراهم أو أوصى بدراهم ، فلفظ المقر والموصي محمول على الأقل ; فإن قيل : أقل الجمع اثنان حمل عليهما ، وإن قيل أقل الجمع ثلاثة لم يقبل التفسير [ ص: 196 ] بالاثنين ، قال : ولا أرى الفقهاء يسمحون بهذا ، ولا أرى للنزاع في أقل الجمع معنى إلا ما ذكرته . انتهى .

وحكى الأستاذ أبو إسحاق في أصوله الفائدة الثانية عن بعض أصحابنا ، ثم قال : وهذه فائدة مزيفة ، لأن أئمتنا مجمعون على جواز تخصيص الجمع والعموم بما هو دليل إلى أن يبقى تحته واحد ; انتهى . ولعل هذه طريقة قاطعة تنفي الخلاف ، وإلا فالأستاذ أبو منصور مصرح بالخلاف ، وإنكار إمام الحرمين الفائدة الأولى لا وجه له ، ثم اختار في المسألة بناءها على القول بالعموم ، ورأى أن إفادة الجموع للتعميم ثابتة على حسب اختلاف طبقات العموم في قوة الاستيعاب ، والخروج عن العموم إلى قصره على الاثنين أبعد في حكم الخطاب ودلالته من قصره على المحتملات ، فاقتضى هذا عنده طلب قوة في المخرج له عن بابه ، وتقديم ما هو الأرجح من غير منع من الرد إلى الاثنين .

السادس : وقع في عبارة الشيخ أبي إسحاق ، والماوردي وغيرهما من كتب الفقه أقل الجمع المطلق ثلاثة ، وكأنهم يريدون بالمطلق نحو دراهم ونحوه بخلاف الجمع المقيد نحو عشرة دراهم أو تسعة أو ثلاثة ، فإنه جمع وليس بمطلق فلا يتناول إلا مقيده .

فوائد : ذكرها الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصوله :

الأولى : اتفقوا على أن لفظ الواحد والاثنين لا يحمل على ما هو أكثر إلا بدليل ، وإن كانت ظواهر وردت عليه في معناه .

الثانية : اختلفوا في مقابلة الجمع بالجمع ، كقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } فقيل إن آحاده تقابل آحاده ، [ ص: 197 ]

وقيل بل الجمع الجمع : فعلى الأول يكون الظاهر موجبا تحريم كل من يقع عليه اسم الأمومة على كل واحد . والثاني يوجب تحريم كل أم على ابنها ، ويطلب في تحريمه على غيره دليل يختص به ، قال : والظاهر منه مقابلة الواحد بالواحد ، كقولهم : وصل الناس دورهم ، وحصدوا زروعهم ، ثم يكون جمعه في الواحد بما عداه من الأدلة .

الثالثة : اختلفوا في الطائفة ، فقيل كالجمع مطلقه لثلاثة ، وقيل : للجزء وأقله واحد ، ولم يرجح شيئا ، والمختار الأول لما سبق إيضاحه . نعم ، جعلها الأصحاب في باب اللعان أربعة ، فقالوا : يغلظ الحاكم بحضور جماعة أقلهم أربعة ، لقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وفيه إشكال ، لأن ذلك إن كان من مدلول اللفظ فممنوع ، لأن طائفة تطلق على الواحد فأكثر ، وإن كان لأجل أنه زنا فالإقرار به يكفي فيه رجلان على الصحيح .

الرابعة : الضمائر الراجعة إلى الظاهر تحمل على ما وضعت له في الأصل ، وإن كان المتقدم عليها مخالفا ثم تناول كل واحد منها بدليل على موافقة صاحبه ، كقولهم : رجلان قالوا ، ورجال قالا ، يحمل قوله : قالوا على الجمع ، ورجلان على التثنية في ظاهر الكلام ، ثم يطلب الدليل الذي يبين المراد منهما ، فإن قام على أن الاسم يحمل على الخبر حمل عليه ، وإن قام على أن الخبر يحمل على المبتدأ صير إليه ، وكذلك ضمائر الإناث ، والهاء والميم كقوله : رجلان قتلهم ، أو رجال قتلهما : يحتمل أن يكون الابتداء أصلا والخبر مركبا عليه ، ويجوز أن يكون الخبر مرادا والابتداء محمول على ما يوافقه ، ولا يغير أحدهما عما وضع له لموافقة صاحبه إلا بدليل يوجبه

التالي السابق


الخدمات العلمية