صفحة جزء
المسألة الثانية

: إذا علق الشارع حكما في واقعة على علة تقتضي التعدي إلى غير تلك الواقعة ، مثل حرمت السكر لكونه حلوا ، فإن قطع باستقلالها فالجمهور على التعدي قياسا وشذ من قال فيه يتعدى باللفظ ، فإن لم يقطع بل كان ظاهرا فيه كما في المحرم الذي وقصته ناقته ، وقوله عليه السلام : { لا تخمروا رأسه ، ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا } فإن الظاهر عدم الاختصاص بذلك المحرم ، فاختلفوا في أنه يعم أم لا ؟ [ ص: 199 ] فقال أبو حنيفة : لا يعم ، لأنه يحتمل تخصيص ذلك بهذه العلة ، لأنه وقصت به ناقته لا لمجرد إحرامه ، أو لأنه علم من نيته إخلاصه ، وغيره لا يعلم منه ذلك . واختاره الغزالي ، وحكاه عن القاضي أبي بكر ، والصحيح أنه عام . واختلف القائلون به : هل عم بالصيغة ، أو بالقياس ؟ على قولين محكيين عن الشافعي ، والصحيح أنه عام بالقياس .

قلت : والذي رأيته في كتاب " التقريب " للقاضي خلاف ما نقل ابن الحاجب عنه ، إذا طردت العلة ولم يمكن احتمال اختصاص العلة بصاحب الواقعة فإن أمكن أن تكون العلة خاصة به لم يعم ، كقوله : لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ، قال : يعمم بتعميم ذلك في كل محرم ، وفي الحديث ما يقتضي تخصيصه بذلك المحرم ، فإنه علل الحكم بأنه يبعث ملبيا ، وهذا مما لا نعلمه في حق كل محرم ، وكذا حكاه عنه في المستصفى .

وقال أبو الحسين بن القطان : يعم ، لقوله عليه السلام { حكمي على الواحد حكمي على الجماعة } وهو يقتضي ترجيح الصيغة ، ونقل ذلك عن الصيرفي أيضا . [ ص: 200 ]

والذي وجدته في كتاب " الأعلام " إطلاق ثبوت الحكم في كل من وجدت فيه تلك العلة ، ومثله بقوله لفاطمة بنت أبي حبيش ، وقد سألته عن الاستحاضة : { دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي } ، قال : فلا يقتضي تخصيصها بذلك الحكم ; بل يقتضي ثبوته بذلك لذلك المعنى ، وهو الاستحاضة حيث وجدت ، إلا أن يصرح بالتخصيص .

وذهب حذاق الحنابلة إلى أنه يعم باللفظ لا بالقياس ، حتى إنهم حكموا بكون العلة المنصوصة ينسخ بها كما ينسخ بالنصوص والظواهر مع منعهم من النسخ بالقياس ، ذكر هذا غير واحد ، منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل وأبو الخطاب وابن الزاغوني وغيرهم . تنبيه [ إذا علق غير الشارع حكما في واقعة على علة ]

هذا بالنسبة إلى كلام الشارع ، وأما غيره لو قال وله عبيد : أعتقت هذا العبد ، لأنه أبيض ، فلا يعتق الباقون ، قاله القاضي أبو الطيب في تعليقه في الكلام على وقوع الطلاق الثلاث ، ففرق بين وقوع العلة في كلام الشارع حيث تعم ، وبين وقوعها في كلام غيره فلا تعم . قال : ولذلك إذا قال الشارع : لا تأكل الرءوس ، وجب أن لا يأكل ما وقع عليه اسم الرأس ، ولو قال غيره : والله لا أكلت الرءوس انصرف ذلك إلى المعهود ، انتهى . [ ص: 201 ]

وهكذا رأيت الجزم به في كتاب الدلائل " لأبي بكر الصيرفي ، وكذا الغزالي في المستصفى في باب القياس ، فقال : الصحيح عندنا أنه لا يعتق إلا غانما لقوله : أعتقت غانما لسواده ، وإن نوى عتق السودان ، لأنه بقي في حق غير غانم مجرد السواد والإرادة ، فلا تؤثر . انتهى .

وقضية كلام الأصحاب في كتاب الأيمان فيمن حلف لا يشرب له ماء من عطش ، أنه لا يحنث بأكل طعامه ، ولبس ثيابه ، وشرب الماء من غير عطش ، وإن كان دلالة المفهوم تقتضيه ، وقضية كلام جماعة أنه لا فرق في العموم ، وإليه صار جماعة من الحنابلة ، فقال أبو الخطاب : لو قال لوكيله أعتق عبدي لأنه أسود ساغ له أن يعتق كل عبد له أسود ، وقال ابن عقيل في الفنون : بديهتي تقتضي تعدية العتق إلى كل أسود من عبيده ، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى في باب القياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية