صفحة جزء
[ المسألة ] الثالثة

قال الشافعي رضي الله عنه : ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، وعليه اعتمد في صحة أنكحة الكفار ، وفي الإسلام على أكثر من أربع نسوة وغير ذلك ، لقضية غيلان [ ص: 202 ] حيث لم يسأله عن كيفية ورود العقد عليهن في الجمع والترتيب ، فكان إطلاق القول دالا على أنه لا فرق بين أن تقع تلك العقود معا أو على الترتيب ، واستحسنه منه محمد بن الحسن .

وهذه المسألة فيها أربعة مذاهب :

أحدها : وعليه نص الشافعي أن اللفظ منزل منزلة العموم في جميع محامل الواقعة .

والثاني : أنه مجمل فيبقى على الوقف .

والثالث : أنه ليس من أقسام العموم ، بل إنما يكفي الحكم فيه من حاله عليه السلام لا من دلالة الكلام ، وهو قول إلكيا الهراسي .

والرابع : اختيار إمام الحرمين وابن القشيري أنه يعم إذا لم يعلم عليه السلام تفاصيل الواقعة ; أما إذا علم فلا يعم ، وكأنه قيد المذهب الأول . [ ص: 203 ]

واعترض على ما قال باحتمال أنه عليه السلام عرف حقيقة الحال في تلك الواقعة ، ولأجل هذا حكى الشيخ في شرح الإلمام أن بعضهم زاد في هذه القاعدة فقال : حكم الشارع المطلق في واقعة سئل عنها ولم تقع بعد عام في أحوالها ، وكذلك إن وقعت ولم يعلم الرسول كيف وقعت ، وإن علم فلا عموم ، وإن التبس هل علم أم لا ؟ فالوقف . وأجاب الشيخ عن الاعتراض الموجب للوقف بأن الأصل عدم الوقوع بالحالة المخصوصة ، فيعود إلى الحالة التي لم تعلم حقيقة وقوعها ، إلا أن يكون المراد القطع ، وهذا الذي قلنا لا يفيد إلا الظن ، فيتوجه السؤال ، وتأول أبو حنيفة الحديث على وقوع العقد عليهن دفعة واحدة ، فإن وقع مرتبا فإن الأربع الأول تصح ، ويبطل فيما عداه .

وأجاب الإمام أبو المظفر بن السمعاني بأن احتمال المعرفة بكيفية وقوع العقد من غيلان وهو رجل من ثقيف وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته في نهاية البعد ، ونحن إنما ندعي العموم في كل ما يظهر فيه استفهام الحال ، ويظهر من الشارع إطلاق الجواب ، فلا بد أن يكون الجواب مسترسلا على الأحوال كلها .

قلت : ولا سيما والحال حال بيان بحدوث عهد غيلان بالإسلام ، على أنه قد ورد ما يدفع هذا التأويل ، وهو ما رواه الشافعي بسنده عن عمرو بن الحارث عن { نوفل بن معاوية قال : أسلمت وتحتي خمس نسوة ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : فارق واحدة ، وأمسك أربعا ، قال : فعدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ، ففارقتها } ، فهذا تصريح بأنه وقع مرتبا ، والجواب واحد . [ ص: 204 ]

وأجاب الهندي أيضا بأنه ليس مراد الشافعي احتمال لفظ الحكاية لتلك الحالة ، وإن فرض أن المسئول عالم بأن تلك الحالة غير مرادة للسائل ، إما لعلمه بأن القضية لم تقع على تلك الحالة أو لقرينة تدل على أن تلك الحالة غير مرادة له ، بل المراد منه احتمال وقوع تلك القضية في تلك الحالة عند المسئول مع احتمال اللفظ إياها ، وعند ذلك لا يخفى أنه يسقط ما ذكروه من الاحتمال .

قال الأستاذ أبو منصور : وقد وافقنا أهل الرأي على هذا في غرة جنين الحرة لأنه صلى الله عليه وسلم أوجب فيه غرة عبدا أو أمة ، ولم يسأل عنه : هل كان ذكرا أو أنثى ؟ فلما ترك التفصيل فيه دل على التسوية فيهما . انتهى .

ولذلك استدلوا لاعتبار العادة في أيام الحيض للاستحاضة بحديث أم سلمة { لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر ، فلتترك الصلاة بقدرها } قالوا : فأطلق الجواب باعتبار العادة من غير استفصال عن أحوال الدم من سواد وحمرة وغيرهما ، فدل هذا على اعتبار العادة مطلقا وتقديمه على التمييز وأصحابنا استدلوا بحديث فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : { إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة } فأطلق اعتبار التمييز من غير استفصال لها ، هل [ ص: 205 ] هي ذاكرة لعادتها أم لا ؟ لكنه مخالف لهذه القاعدة . وقد قسم الإبياري هذه إلى أقسام :

أحدها : إن تبين اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على خصوص الواقعة ، فلا ريب في أنها لا يثبت فيها مقتضى العموم .

ثانيها : أن لا يثبت بطريق ما استفهام كيفية القضية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تنقسم إلى أقسام ، والحكم قد يختلف بحسبها ، فينزل إطلاقه الجواب فيها منزلة اللفظ الذي يعم تلك الأقسام ، لأنه لو كان الحكم يختلف باختلاف الأحوال حتى يثبت تارة ولا يثبت أخرى ، لما صح لمن التبس عليه الحال أن يطلق الحكم ، لاحتمال أن تكون الحالة واقعة على وجه لا يستقر معها الحكم ، فلا بد من التعميم على هذا التقدير بالإضافة إلى جميع الأحوال ، وفي كلامه ما يقتضي الاتفاق على هذه الصورة .

ثالثها : أن يسأل عن الواقعة باعتبار دخولها الوجود لا باعتبار [ ص: 206 ] وقوعها ، كما إذا سئل عمن جامع في نهار رمضان ، فيقول : فيه كذا ، فهذا يقتضي استرسال الحكم على جميع الأحوال ; لأنه لما سئل عنها على الإبهام ، ولم يفصل الجواب ، كان عمومه مسترسلا على كل أحواله .

رابعها : أن تكون الواقعة المسئول عنها حاصلة في الوجود ، ويطلق السؤال عنها فيجيب أيضا كذلك ، فإن الالتفات إلى القيد الوجودي يمنع القضاء على الأحوال كلها ، والالتفات إلى الإطلاق في السؤال يقتضي استواء الأحوال في غرض المجيب ، فالتفت الشافعي إلى هذا الوجه . وهذا أقرب إلى مقصود الإرشاد وإزالة الإشكال وحصول تمام البيان ، وأبو حنيفة نظر إلى احتمال خصوص الواقعة ، لأنها لم تقع في الوجود إلا خاصة ، فقال : احتمال علم الشارع بها يمنع التعميم . تنبيهات

الأول : إن هذه القاعدة مقصورة بما إذ وجد اللفظ جوابا عن السؤال ، فأما التقرير عند السؤال فهل ينزل منزلة اللفظ حتى يعم أحوال السؤال في الجواب وغيره ؟ لم يتعرضوا له .

وقال ابن دقيق العيد : الأقرب تنزيله طردا للقاعدة ، ولإقامة الإقرار مقام الحكم عند الأصوليين ، إذ لا يجوز تقريره لغيره على أمر باطل ، فنزل منزلة القول المبين للحكم ، فيقوم مقام اللفظ في العموم ، فإن قيل : التقرير ليست دلالته لفظية ، والعموم من عوارض الألفاظ ، ولهذا قال الغزالي : لا عموم للمفهوم ، لأن دلالته ليست لفظية .

فالجواب : أن قولنا منزل منزلة العموم بمعنى شمول الحكم للأحوال ، [ ص: 207 ] فلا يجعله حقيقة في العموم ، ومن أمثلته حديث : { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ، فإن السائل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : { إنا نركب البحر ، ومعنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا } الحديث ، فاستدل به على أن إعداد الماء الكافي للطهارة بعد دخول الوقت مع القدرة عليه غير لازم ، لأنهم أخبروا أنهم يحملون القليل من الماء وهو كالعام في حالات حملهم بالنسبة على القدرة عليه والعجز عنه ، لضيق مراكبهم . وغير ذلك بالنسبة إلى ما قبله وما بعده أيضا ، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فيكون ذلك دالا على جوازه في هذه الأحوال كما يدل عليه اللفظ الوارد في الأمثلة المتقدمة مع ترك الاستفصال .

الثاني : أن ظاهر قوله مع قيام الاحتمال تعليق الحكم بالاحتمال كيف كان مرجوحا وغيره ، فيحصل التعميم فيه وفي غيره ، والظاهر أن الاحتمال المرجوح لا يدخل ، وحينئذ فيحصل التصوير بالاحتمالات المتقاربة والمتساوية في الإطلاق . قاله الشيخ تقي الدين .

وقال جده المقترح : لم يرد الشافعي بذلك مطلق الاحتمال ، حتى يندرج فيه التجويز العقلي ، وإنما يريد احتمالا يضاف إلى أمر واقع ، لأنه لو اعتبر التجويز العقلي لأدى إلى رد معظم الوقائع التي حكم فيها الشارع ، إذ ما من واقعة إلا ويحتمل أن يكون فيها تجويز عقلي .

ويشهد للأول قوله في الأم في مناظرة له : قل شيء إلا ويطرقه الاحتمال ، ولكن الكلام على ظاهره حتى تقوم دلالة على أنه غير مراد ; فأبان بذلك إلى أنه لا نظر إلى احتمال يخالف ظاهرة الكلام ، وإذا ثبت أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم ، فالعموم يتمسك به من غير نظر إلى احتمال التخصيص وإمكان إرادته كسائر صيغ العموم .

بقي أن احتمال علم النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الحال ما يقتضي خروج الجواب على ذلك ، هل يكون قادحا في التعميم ؟ قال الإمام في [ ص: 208 ] المحصول " نعم ، وكلام الشافعي والجمهور يخالفه ، وهو الصواب ، لما ذكرنا من أن التمسك بلفظه ، ولفظه مع ترك الاستفصال بمنزلة التنصيص على العموم ، فلا يعدل عنه بمجرد الاحتمال .

الثالث : أنه قد استشكل هذه القاعدة بما نقل عن الشافعي أيضا أن قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال . قال القرافي : سألت بعض فضلاء الشافعية عن ذلك ، فقال يحتمل أن يكون للشافعي قولان في المسألة ، ثم جمع القرافي بينهما بطريقين :

أحدهما : أن مراده بالاحتمال المانع من الاستدلال ، الاحتمال المساوي أو القريب منه ، والمراد بالاحتمال الذي لا يقدح الاحتمال المرجوح ، فإنه لا عبرة به ، ولا يقدح في صحة الدلالة ، فلا يصير اللفظ به مجملا إجماعا ; لأن الظواهر كلها كذلك لا تخلو عن احتمال ، لكنه لما كان مرجوحا لم يقدح في دلالتها .

والثاني : أن الاحتمال تارة يكون في دليل الحكم ، وتارة في محل الحكم ، فالأول هو الذي يسقط به الاستدلال دون الثاني .

ومثل الأول بقوله عليه السلام : { فيما سقت السماء العشر } ، فيحتمل أن يكون سيق لوجوب الزكاة في كل شيء ، حتى الخضراوات ، كما يقول به أبو حنيفة ، ويكون العموم مقصودا له ، لأنه أتى بلفظ دال عليه وهو ما يحتمل أنه لم يقصده ; لأن القاعدة أنه إذا خرج اللفظ لبيان معنى لا يحتج به في غيره ، وهذا إنما سيق لبيان القدر الواجب دون الواجب فيه ، فلا يحتج به على العموم في الواجب فيه ، وإذا تعارضت الاحتمالات سقط الاستدلال به على وجوب الزكاة في الخضراوات . [ ص: 209 ]

قال : ومثله المحرم الذي وقصته راحلته ، فيحتمل التخصيص به ، ويحتمل العموم في غيره ، وليس في اللفظ ما يرجح أحدهما ، فيسقط الاستدلال على التعميم في حق كل محرم . هذا كلامه .

وهذا الجمع يخالف طريقة الشافعي ، يقول الشافعي يقول بالعموم في مثل هذه الحالة بالقياس كما سبق ، وليس في هذين الطريقين ما يبين به الفرق بين المقامين ، لأن غالب وقائع الأعيان - الشك واقع فيها في محل الحكم

والصواب في الجمع بينهما ما ذكره الأصفهاني في " شرح المحصول " والشيخ تقي الدين في شرح الإلمام وغيرهما ، أن القاعدة الأولى في ترك استفصال الشارع الاستدلال فيها بقول الشارع وعموم في الخطاب الوارد على السؤال عن الواقعة المختلفة الأحوال ، والعبارات الثانية في الفعل المحتمل وقوعه على وجوه مختلفة ، فهي في كون الواقعة نفسها لم يفصل ، وهي تحتمل وجوها يختلف الحكم باختلافها فلا عموم له كقوله : صلى في الكعبة أو فعل فعلا لتطرق الاحتمال إلى الأفعال والواقعة نفسها ليست بحجة ، وكلام الشارع حجة لا احتمال فيه .

الرابع : أن المراد بسقوط الاستدلال في وقائع الأعيان إنما هو بالنسبة إلى العموم إلى أفراد الواقعة لا سقوطه مطلقا فإن التمسك بها في صورة ما مما يحتمل وقوعها عليه غير ممتنع ، وهكذا الحديث { أنه عليه السلام جمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بالمدينة ، من غير مرض ولا سفر } ، فإن هذا يحتمل أنه كان في مطر وأنه كان في مرض ولا عموم له في جميع الأحوال ، فلهذا حملوه على البعض ، وهو المطر ، لمرجح للتعيين . [ ص: 210 ] ويحتمل أن يخرج للشافعي في هذه المسألة قولان من اختلاف قوله إن المعتادة المميزة هل يحكم لها بالتميز ، أو ترد إلى العادة كغيرها ؟ وسببه قوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش : { دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي } ، فردها إلى العادة ، ولم يسألها : هل هي مميزة أم لا ، فدل ذلك على أن الحكم للعادة مطلقا كما هو أحد القولين ، لكن أصحهما أنه يحكم بالتمييز ، وقد تعاكس الشافعي وأبو حنيفة في هذه المسألة مع مسألة غيلان ، فإن أبا حنيفة حمل حديث غيلان على التعاقب ، والشافعي حمله على العموم ، وأبو حنيفة حمل هذا الحديث على العموم ، والشافعي حمله على أنها كانت مميزة بحديث ورد فيه سبق ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية