صفحة جزء
[ المسألة ] الرابعة

في أن المقتضى هل هو عام أم لا ؟ ولا بد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف ، فنقول : المقتضي بكسر الضاد هو اللفظ الطالب للإضمار ، بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء ، وهناك مضمرات متعددة ، فهل له عموم في جميعها أو لا يعم ، بل يكتفى بواحد منها ؟ وأما المقتضى بالفتح فهو ذلك المضمر نفسه ، هل نقدره عاما ، أم نكتفي بخاص منه ؟ إذا عرفت هذا فظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق في " اللمع وشرحها وابن السمعاني في " القواطع " أن الكلام إنما هو في القسم الثاني حيث قالا : الخطاب الذي يفتقر إلى الإضمار لا يجوز دعوى العموم في إضماره ، كقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } فإنه يفتقر إلى إضمار ، فبعضهم يضمر " وقت إحرام الحج أشهر معلومات " ، وبعضهم يضمر " وقت إفعال الحج " ، والحمل على العموم [ ص: 211 ] لا يجوز ، بل يحمل على ما يدل الدليل على أنه مراد به لأن العموم من صفات النطق ، فلا يجوز دعواه في المعاني .

قالا : وكذلك لا يجوز دعوى العموم في { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } ، و { لا نكاح إلا بولي } في نفي الفضيلة ، ومن الفقهاء من يحمله على العموم في كل ما يحتمله ; لأنه أعم فائدة ، ومنهم من يحمله على الحكم المختلف فيه ، لأن ما سواه معلوم بالإجماع ; قال الشيخ أبو إسحاق : وهذا كله خطأ ; لأن الحمل على الجميع لا يجوز ، وليس هناك لفظ يقتضي العموم ولا يحمل على موضع الخلاف ، لأنه ترجيح بلا مرجح . انتهى .

وحاصله أن موضع النزاع إنما هو في المضمر ، لا في المضمر له ، فإن المضمر له منطوق ، وبذلك صرح شمس الأئمة السرخسي ، وأبو زيد الدبوسي في " التقويم " وصاحب " اللباب " من الحنفية ، فقالوا : المقتضى ما اقتضاه النص ، وأوجبه شرطا لتصحيح الكلام ، والنص مقتض له ، كقوله عليه الصلاة والسلام : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان } ، ولم يزد [ ص: 212 ] غير ذلك ، لأنه غير مرفوع ، بل رافع ، فعلم أن المراد بمقتضى الكلام : الحكم أو الإثم ، أو هما جميعا ، فالشافعي أثبت للمقتضي عموما ، وعندنا لا عموم له ، لأن دلالته ضرورية للحاجة ، فيقدر بقدر ما يصح المذكور به عندنا ، وقال الشافعي : المقتضى كالمنصوص في احتمال العموم والخصوص . ومنشأ الخلاف أن المقتضى عند الشافعي ثابت بالنص ، فحكمه حكم النص ، وعند الحنفية أنه غير مذكور ، فكان معدوما حقيقة ، وإنما يجعل موجودا بقدر الحاجة ، وما ثبت بالضرورة يقدر بقدرها ، وقد أريد به رفع الإثم بالإجماع فلا يزاد عليه .

ثم فرع السرخسي على الخلاف المسألة السابقة ، وهي ما لو قال : إن أكلت فعبدي حر ونوى طعاما ، قال : فعند الشافعي يعمل بنيته لأن الأكل يقتضي مأكولا ، وذلك كالمنصوص عليه ، فكأنه قال : إن أكلت طعاما ، فلما كان للمقتضى عموم عنده عمل بنية التخصيص ، وعندنا لا يعمل لأنه لا عموم للمقتضى ، ونية التخصيص فيما لا عموم له لاغية . انتهى . وجعل غيره الحديث من باب الحذف لا من باب الاقتضاء ، فكان تقدير الحكم والإثم من باب الاشتراك ، والمشترك لا عموم له ، وكذا قوله : { إنما الأعمال بالنيات } ، والفرق بينهما أن في الحذف ينتقل الحكم من المنطوق إلى المحذوف ، وفي المقتضى لا ينتقل من المقتضى شيء ، بل يقدر قبله ما يصححه ، قالوا : ونظيره الميتة أبيحت للضرورة ، فيقتصر على سد الرمق ، ولا يتناول ما وراءه من الشبع ، بخلاف المنصوص ، فإنه عامل بنفسه ، فيكون بمنزلة المذكى يعم سائر جهات الانتفاع . [ ص: 213 ] واعلم أنه يخرج من كلام الشافعي في هذه المسألة قولان : فإنه قال في " الأم " في قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا ، أو به أذى من رأسه } الآية تقدير الآية : فمن كان منكم مريضا فتطيب ، أو لبس ، أو أخذ ظفره ، لأجل مرضه ، أو به أذى من رأسه فحلقه ففدية ، فقدر جميع المضمرات ؟ وقال في " الإملاء " ليس هذا مضمرا في الآية ، وإنما تضمنه حلق الرأس فقط ، والباقي مقيس عليه ، فقدره خاصا .

وقد حكى البصير الماوردي في " الحاوي " و " الحاصل " أن في المسألة مذاهب :

أحدها : وحكاه الأصفهاني في " شرح المحصول " عن " شرح اللمع " للشيخ أبي إسحاق أنه عام ، وبه قال جماعة من الحنفية . ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر الشافعية والمالكية ، وصححه والنووي في " الروضة " في كتاب الطلاق ، فقال : المختار أنه لا يقع الناسي ; لأن دلالة الاقتضاء عامة ، يعني من قوله : { رفع عن أمتي } فإنه يحتمل أن يكون التقدير : حكم الخطأ أو إثمه أو كل منهما جميعا ، وقاعدة الشافعي تقتضي التعميم ، ولهذا كان كلام الناسي عنده لا يبطل الصلاة ، وأبو حنيفة أبطلها به ; لأنه يرى عدم عمومه .

والثاني : أنه لا عموم له في كل ما يصح التقدير به واختاره الشيخ أبو إسحاق [ ص: 214 ] والغزالي ، وابن السمعاني ، والإمام فخر الدين ، والآمدي ، وابن الحاجب وغيرهم ، وقال الشيخ في " شرح الإلمام " : إنه المختار عند الأصوليين ، لأن الضرورة هي المقتضية للإضمار ، وهي المندفعة بإضمار واحد وتكثير الإضمار تكثير لمخالفة الدليل ، ثم قال الإمام فخر الدين للمخالف أن يقول : ليس إضمار أحد الحكمين أولى من الآخر ، فإما أن لا يضمر حكم أصلا ، وهو غير جائز ، لأنه تعطيل دلالة اللفظ ، أو يضمر الكل وهو المطلوب .

وذكر الآمدي هذا ، وأجاب عنه بأن قولهم : ليس إضمار البعض أولى من البعض ، إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين ، وليس كذلك بل إضمار حكم ما والتعيين إلى الشارع ، ثم أورد عليه أنه يلزم منه الإجمال ، فأجاب بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة الدليل ، وكل منهما يعني من الإجمال وإضمار الكل خلاف الأصل .

وإذا قلنا : بأنه ليس بعام ، فهل هو مجمل أم لا ؟ قولان ، وإذ قلنا : ليس بمجمل ، فقيل : يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود اللائق به ، حكاه ابن برهان ، وقيل : يضمر الموضع المختلف فيه ، لأن المجمع عليه مستغن عن الدليل ، حكاه الشيخ أبو إسحاق .

وقال الأصفهاني في " شرح المحصول " : إن قلنا : المقتضى له عموم أضمر الكل ، وإن قلنا : لا عموم له ، فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع ، أو يضمر حكما من غير تعين وتعيينه إلى المجتهد ؟ [ ص: 215 ]

والأول اختيار الغزالي .

والثاني اختيار الآمدي .

والثالث التوقف . وهو ظاهر كلام الآمدي آخرا لتعارض المحذورين : كثرة الإضمار والإجمال إذا قيل بإضمار حكم ، وأما ابن الحاجب ، فإنه قال : التزام الإجمال أقرب من مخالفة الأصل بتكثير الإضمار ، وهذا بعينه هو اختيار الكرخي في مثل قوله : { حرمت عليكم الميتة } أن تكون مجملة ، وقد صرح ابن الحاجب هناك بمخالفته . واختار الآمدي في باب المجمل بأن التزام محذور الإضمار الكثير أولى من التزام محذور الإجمال في اللفظ لثلاثة أوجه :

أحدها : أن الإضمار في اللغة أكثر استعمالا من اللفظ المجمل ، ولولا أن المحظور في الإضمار أقل ما كان استعماله أكثر .

الثاني : أنه انعقد الإجماع على وجود الإضمار في اللغة والقرآن ، واختلفوا في جواز الإجمال فيهما .

الثالث : أنه عليه السلام قال : { لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها } وذلك يدل على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم في التحريم ، وإلا لما ألزمهم الذم ببيعها . هذا كله إذا كانت المقدرات على حد واحد في الدلالة ، أما إذا كان بعضها أعم من غيره فاختار القرافي أنه يتعين إضمار الأعم لما فيه من زيادة الفائدة وتكثيرها مع اندفاع المحذور الذي هو تكثير الإضمار . [ ص: 216 ] وقرره الشيخ تقي الدين في " شرح الإلمام " فقال : وهنا وجه يمكن أن يحصل به مقصود من أراد التعميم ، وهو أن يضمر شيئا واحدا ، مدلول ذلك مقتض للعموم ، فيحصل المقصود من العموم مع عدم تعدد المضمر ، مثل أن يضمر في قوله : رفع عن أمتي الحكم ، فيعم الأحكام مع غير تعدد في المضمر . انتهى .

وقدر فخر الدين في تفسيره في قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } التصرف في الميتة ليعم تحريم الأكل ، والبيع والملابسة وغير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية