صفحة جزء
[ صيغ الفعل المثبت الذي له أكثر من احتمال ] ثم الكلام على الصيغ :

إحداها : إذا قال الراوي : سمعته يقول : قضيت بالشفعة للجار ، فقال القاضي : يحمل على العموم في كل جار ، ويحتمل العهد ، وبذلك جزم " صاحب المحصول " فقال : لا يعم لاحتمال كون " أل " للعهد ، وهذا بناء منه على اختياره أن المفرد المحلى بأل لا يعم ، فأما إذا كان منونا كقوله : قضيت بالشفعة لجار ، فجانب العموم أرجح . قاله صاحب الحاصل ، وقال : الأشبه أنه يفيد العموم .

الثانية : قول الصحابي : { نهى عن بيع الغرر } ، وعن " نكاح الشغار " ، [ ص: 233 ] و { أمر بقتل الكلاب } ، ظاهر كلامهم أنه ليس بعام أيضا ، وأنه مثل " قضى " ، وصرح به الغزالي وغيره . وهذا ليس بصحيح كما قاله القرطبي ، لأن " أمر ، ونهى " عبارة عن أنه وقع منه عليه السلام خطابا التكليف اللذان هما الأمر والنهي ، فلما لم يذكر الصحابة مأمورا ولا منهيا مخصوصا ، علم أن المخاطب بذلك كل المكلفين كسائر خطابات التكليف ثم إن صدر أمره ونهيه لواحد بعينه ، فهو يتوجه للجمع .

قلت : وقد احتج الشافعي على بطلان بيع اللحم بالحيوان بمطلق من جنسه وغيره بعموم قوله : { نهى عن بيع اللحم بالحيوان } وقد احتج أصحابه بالنهي عن بيع الغرر على كثير من المسائل ، وكذلك { لعن الله الواصلة والمستوصلة } .

وقال القاضي : استدلال الفقهاء بمثل هذه الصيغ ، إن اقترن به ما يدل على العموم حمل عليه ، وإلا امتنع التعلق به . وما روي أن الشافعي احتج بقضية عمر بن عبد العزيز في ذلك ، وأن عروة بن الزبير قال لعمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن { الخراج بالضمان } ، فإنهما إنما احتجا [ ص: 234 ] بذلك لاعتقادهما أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع ، وأنه علق الخراج بالضمان ، وذلك يوجب التعميم على أنه قد روي { الخراج بالضمان } بدون قضى ، فيجب التعلق به حينئذ .

وفي " المستصفى " في " باب السنة " أن قول الصحابي ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، أو نهى عن كذا ) قيل : إنه أمر لجميع الأمة ، والصحيح أن من يقول بصيغة العموم ينبغي أن يتوقف في هذا ، إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للأمة ، أو لطائفة ، أو لشخص بعينه ، فيتوقف فيه على الدليل ، لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة ، إلا إذا كان لوصف يخصه من سفر أو حيض ، كقولنا : أمرنا إذا كنا مسافرين . نعم ، إن علم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الأمة حمل عليه ، وإلا احتمل أن يكون أمرا له وللأمة ولطائفة .

وقال شارحه العبدري من قال : إنه عام فباطل ، لأن الفعل لا يدل على المفعول بصيغته ، بل بمقتضاه ، والمقتضى لا عموم له .

الثالثة : أن يورد الفعل بصيغة " كان " فهل هو عام أم لا ؟ على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق وابن برهان . وصحح الشيخ أنه لا يقتضي العموم ، لأنه وإن اقتضى التكرار إلا أنه يجوز أن يكون التكرار على صيغة واحدة لا يشاركها فيها سائر الصفات ، فأما إذ قيل : كان يفعل ، كقوله : { كان يجمع بين الصلاتين } ، فهذا يحتمل العموم ، لخروج الكلام مخرج تكرار الأفعال ، فيحتمل أن يكون يفعل ما يلزمه اسم الجمع في حالتين مختلفتين ، قال : وما هو بالبين أيضا .

وفصل ابن برهان بين أن يكون ذلك في الأمور التي تشيع ، ولا تبقى [ ص: 235 ] في طي الكتمان كقول عائشة : { كانت الأيدي لا تقطع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه } فهو موضع الخلاف ، وبين أن يكون مبنيا على الستر والكتمان كالوطء ، فلا يجوز دعوى العموم فيه قطعا ولا يكون حجة ، كما نقل في قضية الاغتسال والأقوال كقول زيد بن ثابت : كانت عمومتي ، يفعلونه ولا يغتسلون .

التالي السابق


الخدمات العلمية