صفحة جزء
[ ص: 251 ] المسألة ] السادسة [ خطاب المواجهة ، هل يشمل المعدومين ؟ ]

الخطاب الوارد شفاها في عصر النبي عليه السلام مثل : يا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، ويسمى خطاب المواجهة ، لا خلاف في شموله لمن بعدهم من المعدومين حال صدوره ، لكن هل هو باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس ؟ فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه من اللفظ ، وذهب الأكثرون إلى الثاني ، وأن شمول الحكم لمن بعدهم [ بالإجماع أو القياس ] والحق أنه مما عرف بالضرورة من دينه عليه السلام ، أن كل حكم تعلق بأهل زمانه فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة .

قال أبو الحسين بن القطان : هم مكلفون لا من الخطاب ، ولكن لما كانت الرسالة راجعة إلى سائر القرون كانوا سواء ، قال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } وقوله : { بعثت إلى الناس كافة } . قلت : وأصرح منهما قوله تعالى : { هو الذي بعث في [ ص: 252 ] الأميين رسولا } إلى قوله { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم }

وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد : من قال بخصوصه بالمخاطبين ينبغي أن يعتبر فيه أحوال المخاطبين ، ولا يدخل في خطابهم من ليس بصفتهم إلا بدليل من خارج ، وهذا غير الاختصاص بأعيانهم ، وهو أعلى مرتبة منه ، لأن اعتبار الأعيان في الأحكام محمول غالبا غلبة كثيرة .

ويحتمل أن يقال : لا تعتبر أحوالهم وصفاتهم إلا أن يحتمل اعتبارها لمناسبة أو غيرها ، والأليق بالتخصيص الأول .

وقال في " شرح العنوان " : الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق ، لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة ، ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطب ، وإما أن يقال : إن الحكم يقتصر على غير المخاطب إلا أن يدل دليل على العموم في تلك المسألة بعينها ، وهذا باطل لما علم قطعا من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص .

واعلم أنه عبر جماعة عن هذه المسألة بأن الخطاب مع الموجودين في زمنه عليه السلام لا يتناول من بعدهم إلا بدليل منفصل ، وذكرها بعضهم أخص من هذا وفرض المسألة في : يا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، كما ذكرنا .

وقال بعض المتأخرين : الألفاظ لها حالتان : تارة تكون محكوما بها ، [ ص: 253 ] نحو زيد قائم ، أو مخاطبة بخطاب المواجهة نحو يا زيد ، وتارة تكون متعلق الحكم ، نحو اصحب العلماء فالمسميات في الحالة الأولى يجب أن تكون موجودة حال الحكم أو الخطاب ، فإن القضاء بالحقيقة في الخارج فرع وجودها ، وكذلك المتكلم معها ، ومدارها في الحالة الثانية لا يجب أن تكون موجودة في الخارج ، بل اللفظ حقيقة فيما وجد وسيوجد منها ، كقول الوالد لولده : اصحب العلماء ، لا فرق فيه بين من يكون عالما حال الخطاب ، وبين من سيصير عالما بعد ذلك ، وكذلك اقطعوا السارق وحدوا الزناة ، واقتلوا المشركين ، لقيام الإجماع على نحو { قاتلوا الذين لا يؤمنوا بالله } وقوله : { والسارق والسارقة } { الزانية والزاني } يتناول مشركي زماننا ، وسراقهم ، وزن لا على وجه المجاز ، لكن اتفقوا أيضا على أن الاتصاف بالصفة المشتقة لمن لم تعم به بالنسبة إلى قيامها في المستقبل مجاز ، كما في قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } ولا طريق إلى الجمع بين هذين الاتفاقين إلا ما ذكرناه من كون الصفة محكوما بها ، وكونها متعلق الحكم .

وقد اعترض النقشواني في " تلخيص المحصول " على هذه المسألة بقول الأصوليين : إن المعدوم يكون مخاطبا بالخطاب السابق ، ولم يفرقوا بين خطاب المشافهة وغيره ، وهو غفلة منهم ، لأن تلك المسألة إنما هي في الكلام النفسي ، والكلام النفسي له تعلق بمن سيوجد على تقدير وجوده ، وتعلق الكلام النفساني ليس من باب أوضاع اللغة في شيء بل هو أمر عقلي ، ولذلك مثلوه بأن أحدنا يجد في نفسه طلب الاشتغال بالعلم ، والذي من ولد سيوجد له على تقدير وجوده ، بخلاف هذه المسألة ، فإن معتمد القول بأن خطاب المشابهة لا يتناول المعدوم ، أن العرب لم تضع مثل : قوموا ، ولا عليكم أنفسكم خطابا للمعدوم ; بل ولا للموجود الغائب ، بل الحاضر [ ص: 254 ] القريب . والحاصل أن البحث في هذه المسألة لغوي ، وتلك عقلي ، فلا تناقض بينهما . وممن أورد هذا السؤال أيضا صاحب " البديع " ، وأجاب عنه بأن الكلام ثم في تسميته أمرا ، وهنا في تسميته خطابا ، ولا تلازم بينهما ، فإن معنى تعلق الأمر بالمعدوم التعلق العلمي لا التنجيزي ، ولا يجوز أن يسمى خطابا ; لأنه عبارة عما قصد به إفهام من هو متهيئ للفهم ، وهو غير ممكن في المعدوم ، وهذا إنما يتم إذا قلنا : إن كلام الله في الأزل لا يسمى خطابا ، فإن قلنا يسمى فلا فرق بينهما ، والظاهر أن الذي قال بتناول الخطاب للمعدوم زمن النبي عليه السلام أراد به التناول عند صيرورته أهلا للخطاب كما في الأمر ، لا أنه حال عدمه مخاطب بمعنى يفهمه في ذلك الوقت .

التالي السابق


الخدمات العلمية