صفحة جزء
[ ص: 269 ] المسألة الثانية وروده على سبب خاص

فتقول : لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما جاء من الشارع ابتداء كقوله : { مفتاح الصلاة الطهور } ، فأما ما ذكره جوابا لسؤال ، فأطلق جماعة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بلا خلاف . ولا بد في ذلك من تفصيل ، وهو أن الخطاب إما أن يكون جوابا لسؤال سائل أم لا ؟ . فإن كان جوابا ، فإما أن يستقل بنفسه أو لا ، فإن لم يستقل بحيث لا يصح الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه ، حتى كأن السؤال معاد فيه ، فإن كان السؤال عاما فعام أو خاصا فخاص .

مثال خصوص السؤال قوله تعالى : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } وقوله في الحديث : { أينقص الرطب [ ص: 270 ] إذا جف ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذن } وكقول القائل : وطئت في نهار رمضان عامدا فيقول : عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ، ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج على أنه عام في المكلفين ، أو في كل من كان بصفته .

ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان ، فقال : يعتق رقبة . فهذا عام في كل واطئ في رمضان . وقوله : " يعتق " وإن كان خاصا بالواحد ، لكنه لما كان جوابا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع كان الجواب كذلك ، وصار السؤال معادا في الجواب . واختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله حمل هذا الحكم على العموم ، فقيل : لأنه لما لم يستفصل " بأي شيء أفطرت " ؟ دل على أن الحكم باختلاف ما يقع به الفطر ، وضعف باحتمال علمه بالحال ، فأجاب على ما علم .

وقيل : لما نقل السبب وهو الفطر ، فحكم فيه بالعتق صار كأنه علل وجوب العتق بوجود الفطر ، لأن السبب في الحكم تعليل ، وهذا موجود في غير السائل ، وهذا أصح .

وقيل من قوله : ( حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ) ، قال الغزالي : وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله وكل وصف مؤثر للحكم . [ ص: 271 ] وجعل القاضي في " التقريب " من هذا الضرب قوله : { أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال : هو الطهور ماؤه } فقال : لأن الضمير لا بد له من تعلق بمذكور قبله ، ولا يحسن أن يبتدأ به ، وفيه نظر ، لأن هذا ضمير الشأن ، ومن شأنه صدر الكلام ، وإن لم يتعلق بما قبله ، وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني ، وهو الصواب ، وبه صرح ابن برهان وغيره . وإن استقل الجواب بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاما تاما مفيدا للعموم فهو على ثلاثة أقسام : لأنه إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم

الأول : أن يكون مساويا له لا يزيد عليه ولا ينقص ، كما لو سئل عن ماء بضاعة وماء البحر ، فقال : لا ينجسه شيء ، فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف كما قاله ابن فورك ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وابن القشيري وغيرهم وكذا قال أبو الحسين في " المعتمد " : لا شك في كونه مقصودا فيه ، ولا يجوز خروج شيء من السؤال عن الجواب إلا بدليل . ومثل القاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " هذا القسم بحديث المجامع في نهار رمضان .

قال : والظاهر تعلق الحكم الذي هو الإعتاق بالوقوع المذكور تعلق الحكم بالعلة ، لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره ، فيعم كل من وجد فيه ذلك .

قال : ولهذا قلنا فيما روي أن { أعرابيا جاء إلى النبي عليه السلام وعليه جبة ، مضمخ بالخلوق ، فقال : وعلى هذه الجبة ، فقال : أحرمت انزع الجبة ، واغسل الصفرة } ، ولم يأمره بالفدية فدل على أن الفدية غير [ ص: 272 ] واجبة ، والسبب علق الحكم بمثله ، وظاهر كلام الأستاذ أبي منصور جريان الخلاف إلا في هذا القسم أيضا .

وقال ابن الصباغ في " العدة " : ذكر القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية " أن المخاطب بذلك يكون أصلا ، وكل من فعل فعلا مثله يكون فرعا له بعلة تعدت إليه ، كما كان الأرز فرعا للبر في إثبات الربا فيه . قال : وهذا فيه نظر ، لأن خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد خطاب للجماعة بالإجماع ، ولو كان غيره فرعا له لكان هو أيضا فرعا لنفسه ، وهو محال .

الثاني : أن يكون الجواب أخص من السؤال مثل أن يسأل عن أحكام المياه ، فيقول : ماء البحر طهور ، فيخص الجواب بالبعض ، ولا يعم بعموم السؤال بلا خلاف قاله الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما . لكن كلام الأستاذ أبي إسحاق يقتضي جريان الخلاف فيه . قال ابن القشيري : ولا يجوز أن يصدر مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا علم أن الحاجة إنما تمس إلى بيان ما خصصه بالذكر ، أما إذا علم أن الحاجة عامة في بيان جملة المياه فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

ولهذا قال المازري : إن قيل : هل يجوز أن لا يطابق النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بزيادة أو نقص ؟ قلنا : أما الزيادة فنعم ، كقوله : { الحل ميتته } وقد سئل عن الماء ، وأما النقصان فإن مست الحاجة إلى بيان جميعه ولم يكن في المذكور تنبيه على المسكوت عنه لم يجز ، وإن كان فيه تنبيه يعلم به السامع حكم المسكوت عنه قبل فوت الحادثة ، فإن ذلك لا يسوغ ، فإن لم تمس الحاجة إليه فعلى الخلاف في تأخير البيان .

وقال القاضي أبو بكر وابن فورك وصاحب " المعتمد " وغيرهم : هذا لا يجوز إلا بثلاثة شروط : أن ينبه في الجواب على حكم غيره ، وأن يكون السائل مجتهدا ، وإلا لم يفد التنبيه ، ولعلهم أرادوا بالمجتهد من له قوة التنبه وإن لم يبلغ رتبة الاجتهاد وأن يبقى من زمن العمل وقت متسع للاجتهاد ، [ ص: 273 ] فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما سأله ، وينبهه بذلك على جواز البعض الآخر بطريق من طرق العلة ، كقوله لعمر حين سأله عن القبلة للصائم : { أرأيت لو تمضمضت } وقوله للخثعمية : { أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أينفعه ذلك ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى } ، قال : وحكمه حينئذ كحكم السؤال ، لكن لا يسمى عاما لدلالة التنبيه . ومتى انتفى شرط من الثلاثة لا يجوز أن يجيب المسئول فيها عن البعض للإخلال بما يجب بيانه .

ومثل القاضي في " شرح الكفاية " هذا القسم بما لو سئل عن قتل النساء الكوافر ، فقال : اقتلوا المرتدات . قال : فيختص القتل بهن ، ولا تقتل الحربيات لأجل دليل الخطاب . ولأن عدوله عن الجواب العام إلى الخاص دليل على قصد المخالفة . قال : ولهذا قال أصحابنا في حديث : { جعلت لي الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا } : علق على اسم الأرض كونها [ ص: 274 ] مسجدا ، وعلق على تربتها كونه طهورا ، فدل على قصد المخالفة بين المسجد والطهورية ، خلاف قول الحنفية : إن الأرض كلها مسجد وطهور .

ومنه احتجاج أصحابنا بقوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } إلى قوله : { حتى يضعن حملهن } فأوجب السكنى مطلقا والنفقة بشرط الحمل ، فدل على قصد المخالفة بينهما ، وأن المبتوتة الحائل لا نفقة لها .

ومثل الأستاذ أبو إسحاق هذا القسم بقول السائل : { هلكت وأهلكت ، فقال : اعتق رقبة } ، فأجاب بما يلزمه ، ولم يتعرض لحكم الموطوءة ، قال : فمن أسقط السبب ، واعتبر اللفظ جعله ظاهرا فيها ، وطلب دلالة في حكمها . الثالث : أن يكون الجواب أعم من السؤال ، فيتناول ما سئل عنه وعن غيره ، فهو قسمان :

أحدهما : أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه ، كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر ، وجوابه بقوله : { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ، فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ، ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم ، بل يعم حال الضرورة والاختيار . قاله أبو بكر بن فورك وصاحب " المعتمد " والمحصول " ، لكن صرح القاضي أبو الطيب وابن برهان بجريان الخلاف الآتي في هذا القسم ، وجعل الأستاذ أبو إسحاق هذا الحديث من قسم المساوي ، وفيه نظر .

الثاني : أن يكون أعم منه في ذلك الحكم الذي سأل عنه ، كقوله : [ ص: 275 ] وقد سئل عن بئر بضاعة : { الماء طهور لا ينجسه شيء } ، وعمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا { الخراج بالضمان } ، وفيه مذاهب :

أحدها : وبه قال بعض أصحابنا ونسبه المتأخرون للشافعي ، أنه يجب قصره على ما أخرج عليه السؤال ، ونسبه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسليم الرازي وابن برهان وابن السمعاني إلى المزني وأبي ثور والقفال والدقاق ، وفي نسبة ذلك للقفال نظر ، وهو ظاهر كلام الخفاف في " الخصال " ، فإنه جعل من المخصصات خروج الكلام على معهود متقدم .

ونسبه الأستاذ أبو منصور إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري ، قال : وعليه يدور كلامه في كثير من الآيات ، يقتصر بها على أسبابها التي ترتب فيها ، ويجعلها تفسيرا لها ، ودلالة على المراد باللفظ ، ونسبه القاضي عبد الوهاب والباجي لأبي الفرج من أصحابهم ، ونسبه الإمام في " البرهان " لأبي حنيفة وقال : إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي ، وكذا قال الغزالي في " المنخول " وتبعه في " المحصول " والذي في كتب الحنفية ، وصح عن الشافعي خلافه كما سيأتي . نقله القاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك ، قال الماوردي : ولهذا لو قذف زوجته ثم وطئها لم يلاعن عنده ، ويجعل الوطء تكذيبا له ، لأن آية اللعان وردت في العجلاني على سبب خاص ، وهو قوله : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وما قربتها منذ سمعت . وقصد بذلك أنه ترك إصابتها مدة طويلة واقتضى أن يكون ترك إصابتها شرطا في جواز لعانها . [ ص: 276 ]

والثاني : أنه يجب حمله على العموم ، لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ، ولأن الحجة في اللفظ ، وهو مقتضى العموم . ووروده على السبب لا يصلح معارضا لجواز أن يكون المقصود عند ورود السبب : بيان القاعدة العامة لهذه الصورة وغيرها .

وهذا مذهب الشافعي كما قاله الشيخ أبو حامد ، والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان في الأوسط وذكر ابن السمعاني في " القواطع " أن عامة الأصحاب يسنده إلى الشافعي .

واختاره أبو بكر الصيرفي ، وابن القطان ، وقال الأستاذ أبو إسحاق وابن القشيري وإلكيا الطبري والغزالي : إنه الصحيح .

وبه جزم القفال الشاشي في كتابه ، فقال : والأصل أن العموم له حكم ، إلا أن يخصه دليل ، والدليل قد يختلف ، فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه فذاك ، وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه ، ثم قال : والأصل في ذلك أن الأحكام لا يخلو أكثرها عن سبب وأمر يحدث ، ولا ينظر إلى ذلك ، وإنما النظر إلى الحكم كيف مورده ، فإن ورد عاما لم يخص إلا بدليل وإن ورد مطلقا لم يقيد إلا بدليل ، لأن الأسباب متقدمة ، والأحكام بعدها فقد ينظمها مع تقدمها ، كما أن الأحكام لا يخلو أكثرها من أن يقضى به على غير أولها أو فمها ، وليس في ذلك ما يوجب الاقتصار بالخطاب على العين . هذا كلامه .

وقال القاضي ابن كج في كتابه في الأصول : ذهب عامة أصحابنا إلى أن الحكم للفظ . وبه قال أبو حنيفة ، وهو مذهب الشافعي .

قال نصا : والأسباب لا تصنع شيئا ، وإنما الحكم للألفاظ . وقال قوم من أصحابنا : [ ص: 277 ] إن الحكم للسبب ، وادعوا أن ذلك مذهب الشافعي ، لأنه قال في قوله : { إنما الربا في النسيئة } إنه خرج عن سؤال السائل ، لأنه سأل عن الربا في الجنس .

انتهى .

وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحابنا والحنفية ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية ، وأكثر الشافعية والمالكية ، وحكاه الباجي عن أكثر المالكية ، والعراقيين : إسماعيل القاضي ، والقاضي أبي بكر ، وابن خويز منداد وغيرهم ، وقال : إنه الصحيح عندي . انتهى . وقال القاضي في " التقريب " : إنه الصحيح ، لأن الحكم يتعلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ، ولو قال ابتداء لوجب حمله على العموم ، فكذلك إذا صدر جوابا .

وقال الباجي : روي عن مالك المذهبان ; وقال القاضي أبو بكر : روي عن الشافعي المذهبان ، لأنه جعل الخراج بالضمان عاما ، وحمله على جميع المبيعات ، ولم يخصه بمال ، وهو العبد ، وقال في موضع آخر : إن قوله : { إنما الربا في النسيئة } ، يحتمل أن يكون خارجا عن سؤال سائل ، فيجب قصره عليه . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية