صفحة جزء
مسألة

يجوز الاستثناء من الجنس بلا خلاف كقام القوم إلا زيدا ، وهو المتصل ، ومن غير الجنس على الأصح وهو المنقطع ، ويعبر عنه [ ص: 371 ] بالمنفصل ، نحو : إلا حمارا ، وأفسد تعريف المتصل بقولنا : ما جاءني أحد إلا زيد لمن يعلم أن زيدا لم يدخل تحت أحد ، فهو منقطع ، وإن كان من جنس الأول ; فالأحسن أن يقال : المتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني ، نحو : جاء القوم إلا زيدا ، والمنقطع ما لا يتناول اللفظ الأول فيه الثاني ، أو نقول : المتصل ما كان المستثنى جزءا من المستثنى منه ، والمنقطع ما لا يكون .

قال ابن سراج : ولا بد في المنقطع أن يكون الكلام الذي قبل " إلا " قد دل على ما يستثنى مما قبله بأنه معرفة ، وأوضحه ابن مالك ، فقال : لا بد فيه من تقدير الدخول في الأول ، كقولك : قام القوم إلا حمارا ، فإنه بذكر القوم يتبادر الذهن لأتباعهم المألوفات ، فذكر إلا حمارا لذلك ، فهو مستثنى تقديرا ، وكذا قال أبو بكر الصيرفي : يجوز الاستثناء من غير الجنس ، ولكن بشرط ، وهو أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما ، وإلا لم يجز ، كقوله :

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

فاليعافير قد تؤانس ، فكأنه قال : ليس بها من يؤنس به إلا هذا النوع . والحاصل : أن المنقطع يكون مستثنى من مقدار ، أو من مفهوم لفظ لا من منطوقه . وإنما يجوز الاستثناء من غير الجنس غالبا إذا تشارك الجنسان [ ص: 372 ] في معنى أعم ، كما في السلام واللغو المتشاركين في أصل القول في قوله تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما } ، وقوله : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } لاشتراكهما في الرجحان .

ثم الكلام فيه في مواطن :

الأول : في أنه هل وقع في اللغة ؟ فمنهم من أنكره ، وتأوله تأولا رده به إلى الجنس ، وحينئذ فلا خلاف في المعنى .

الثاني : أنكر بعضهم وقوعه في القرآن ، والصواب وقوعه قال ابن عطية : لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي .

الثالث : اختلف في صحته في المخاطبات في العادات ، وقد اختلفت طرق أصحابنا فيه . فقال القاضي أبو القاسم بن كج في كتابه في الأصول : الاستثناء من غير الجنس ، ذهب بعض أصحابنا إلى جوازه وأبى ذلك عامة أصحابنا ، فأما من جوزه فقد استدل بأن الشافعي قال : لو قال : له علي ألف إلا عبدا قبل منه ، وأيضا فإنه ورد به القرآن : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس } ودليلنا : أن الاستثناء شرطه أن يخرج من دخل تحت الاسم ، غير الجنس لم يدخل فيه . والجواب عن الآية بأن إبليس دخل تحت الأمر ، فرجع الاستثناء إليه ، لأنه قد كان أضمر فيه . وتأول قوم قول الشافعي فإنما قبل ثمة لأنه يرجع إلى بيانه ، لأنه اقتضى الإطلاق ، والمعنى إلا من ثمن عبد . انتهى . وكذا قال أبو الحسين بن القطان في كتابه قال : وتمسك المجوز بقول [ ص: 373 ] الشافعي في كتاب " الإقرار " : لو قال : له علي ألف درهم إلا عبدا ، فقد استثنى العبد من الدراهم ، وليس العبد من جنسها . قال : وهذا ليس بشيء ، لأن معناه إلا قيمة العبد ، وهو كذا وكذا درهما ، فدل على أنه أجراه مجرى الاستثناء من الجنس .

قال : وأما قوله : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس } مع أنه ليس من الملائكة ، فالمراد في قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } أي الملائكة وإبليس ، فحذف ، فالاستثناء راجع إلى المضمر ، لأنه لا يجوز أن يدخل في الأمر من لم يذكر فيه .

قال : وذهب بعض أصحابنا على جواز الاستثناء من غير الجنس بدليل ، فأما عند الإطلاق فلا . وممن اختار المنع من أصحابنا إلكيا الطبري ، وابن برهان في الأوسط ، ونقله الأستاذ أبو منصور ، وابن القشيري عن الحنفية ، والأستاذ ابن داود ، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد .

الطريقة الثانية : القطع بصحته في الإقرار ، والخلاف فيما عداه ، وهي طريقة الماوردي قال : لا يختلف أصحابنا في صحته في الإقرار ، واختلفوا في غير الإقرار على وجهين .

والثالثة : وهي طريقة الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ، نقل الاتفاق على صحة الاستثناء من غير الجنس . قال : ويعتبر فيه القيمة دون العدد في الصحة والفساد ، فإذا قال : له علي عشرة دراهم إلا ألفا جوزه نظرا إلى قيمة المستثنى ، فإن كانت عشرة فما زاد بطل الاستثناء ، وإن كانت دونها صح ، وألزم ما بقي ، ولهذا أنكر إلكيا الطبري الخلاف فيه ، وقال : لم يستعمل اللغويون ، وإنما الخلاف في كونه حقيقة أو مجازا . وكذا قال ابن القشيري ، قال : وحقيقة المسألة أن الاستثناء إذا انطوى [ ص: 374 ] على التعرض بما ينبئ عنه المستثنى منه جنسا ، فهو الاستثناء الحقيقي ، كقولك : رأيت الناس إلا زيدا . قال : وقد ترد صيغة الاستثناء مع اختلاف الجنس بلا خلاف ، كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس } والأصح أنه لم يكن من الملائكة . وقد قال تعالى : { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } والخطأ لا يندرج تحت التكليف ، قال : وهذا لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في أنه هل يسمى هذا الجنس استثناء على الحقيقة أو لا ، والأظهر المنع .

وأما قول الشافعي يجوز أن يقول : له علي ألف درهم إلا ثوبا ، فهو على التحقيق استثناء الشيء من جنسه ، لأن المعنى إلا قيمة ثوب . وأبو حنيفة وإن أنكر هذا فقد جوز استثناء المكيل من المكيل مع اختلاف الجنس ، واستثناء الموزون من الهيكل . ا هـ .

وهذا كله يدل على أنه جائز اتفاقا ، وإنما الخلاف في أنه هل يسمى استثناء حقيقة أو مجازا ، وعبارة بعضهم تقتضي أن الخلاف في الجواز ، ومنهم الآمدي في الإحكام فقال : ذهبت الحنفية والمالكية وغيرهم إلى صحة الاستثناء من غير الجنس ، ومنعه الأكثرون ، واختار التوقف ، وظاهره أن المانع لا يسمى ما ورد من ذلك استثناء ، بل يجعل " إلا " بمعنى لكن ، وسيأتي في كلام الماوردي ما يقتضيه .

وحكى المازري في التعليقة " ثلاثة مذاهب :

أحدها : صحته ، والاعتداد به مطلقا ، وعزاه للشافعي ومالك . [ ص: 375 ]

والثاني : عدم الاعتداد به ، وعزاه لمحمد بن الحسن .

والثالث : إن قدر بفرد نحو قوله : له علي مائة درهم إلا مائة معينة اعتد به ، ويسقط مقداره من الجملة الأولى ، وكذلك إذا قدر بوزن أو كيل ، فإن من لا يقدر بشيء من ذلك لم يعتد به ولزمت الجملة الأولى . قال وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه ابن الحكم . انتهى .

وقال ابن الحاج في تعليقه على المستصفى " : الاستثناء المنقطع منعه قوم من جهة الغرض بالاستثناء ، وأجازه الأكثرون من جهة وجوده في كلام العرب ، والمجوزون لم يقدروا أن يدفعوا وجوده في كلام العرب ، والمانعون لم يقطعوا الجهة التي يصح بها المنقطع على وضع الاستثناء .

قال : وقد حل هذا الشك القاضي أبو الوليد بن رشد فقال : إن من عادة العرب إبدال الجزئي مكان الكلي ، كما يبدل الكلي مكان الجزئي اتكالا على القرائن والعرف ، مثلا إذا قال : ما في الدار رجل أمكن أن يكون هناك قرينة تفهم ما سواه ، فلذلك يستثنى ، ويقول : إلا امرأة ، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء كله متصلا ، إلا أن الاتصال منه في اللفظ والمعنى ، ومنه في المعنى خاصة . قال : وإذا تصفح الاستثناء المنقطع وجد على ما قاله ، وقد انفرد بحل هذا الشك .

قال ابن الخشاب النحوي في كتاب " العوني " : أنكر بعضهم الاستثناء من غير الجنس ، وتأولوا تأولا به إلى الذي من الجنس ، وحينئذ فلا خلاف . قال : لكن النحاة قدروه " بلكن " ، وهو غير مشابه لما اختلف فيه الفقهاء ، بل الذي أجازه الفقهاء ينبغي القطع بامتناعه ، فإنهم مثلوه بنحو : له عشرة إلا ثوبا ، وهذا فاسد من جهة اللفظ والمعنى . أما اللفظ : فإن اللغة لا تستعمل هذا الضرب من الاستثناء في المثبت إنما تستعمله في المنفي ، وأما المعنى فمستحيل ، لأن الاستثناء في الأصل إنما جيء به مقابلا للتأكيد . فإنما قلت : جاء القوم كلهم إلا زيدا ، حققت بالاستثناء الإشكال [ ص: 376 ] في عموم المجيء لهم ، وأنه لم يتخلف منهم من لم يجئ ، فإذا قلت : جاء القوم إلا زيدا حققت بالاستثناء البعض لهم . ولهذا لا يصح تصوره في : له علي عشرة إلا ثوبا ، فإن قال : المعنى إلا ثوبا وأكثر لزمه العشرة ، فأين الاستثناء من غير الجنس .

قلت : وقوله : في الأول : لا يجوز في الإثبات ممنوع ، بل جمهور النحويين سوغوه فيه

الرابع : القائلون بالجواز اختلفوا في تسميته استثناء على مذاهب ثلاثة :

أحدها : أنه يسمى استثناء حقيقة ، واختاره القاضي أبو بكر ، ونقله ابن الخباز عن ابن جني ، وقال الإمام : هو ظاهر من كلام النحويين ، وعلى هذا فإطلاق الاستثناء على المتصل والمنقطع هل هو بالاشتراك اللفظي أو المعنوي ؟ قولان .

والثاني : أنه مجاز ، وعليه الأكثرون ، منهم القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق ، وابن الصباغ في " العدة " ، وابن الأنباري في " شرح البرهان " ، وسليم في " التقريب " ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، وابن القشيري ; لأنه ليس فيه معنى الاستثناء ، وليس في اللغة ما يدل على تسميته ، واختاره الرماني من النحويين في " شرح الموجز " .

وقال ابن أبي الربيع في " شرح الإيضاح " : ذهب أكثر الناس إلى أن الاستثناء المتصل هو الأصل ، والمنقطع اتساع ، ومنهم من قال : كلاهما أصل . انتهى . [ ص: 377 ]

والثالث : أنه لا يسمى استثناء لا حقيقة ولا مجازا ، حكاه القاضي في " التقريب " والمازري ، وحكى القاضي قولا آخر أنه بمعنى كلام مبدأ مستأنف .

وقال : قول من قال : منقطع حقيقة ، ومن قال : كلام مبتدأ واحد في المعنى ، وإنما اختلفت العبارة ، ثم قال القاضي والمازري : الخلاف لفظي قلت : بل هو معنوي ، فإن من جعله حقيقة جوز التخصيص به ، وإلا فلا ، وأيضا هو مبني على أن الاستثناء ما لولاه لوجب دخوله ، أو لجاز دخوله .

واحتج في " المحصول " على أنه ليس بحقيقة ، بأنه لا يصح من اللفظ إذ لم يتناوله اللفظ ، فلا حاجة به إلى صارف عنه ، ولا من المعنى وإلا صح استثناء كل شيء من كل شيء ; لوجوب اشتراك كل شيئين في معنى لو حمل اللفظ عليه جاز الاستثناء منه .

وحكى ابن السمعاني في " القواطع " الخلاف على نمط آخر ، فقال : اختلفوا في الاستثناء من غير الجنس على ثلاثة مذاهب :

وأحدها : أنه ممنوع من طريق اللفظ والمعنى ، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي ، وجعلوه لغوا .

والثاني : يجوز لفظا ومعنى .

الثالث : يصح من طريق المعنى دون اللفظ . قال : وهو الأولى بمذهب الشافعي ، وهو قول المحققين من الأصحاب ، ولهذا لو قال : لفلان علي ألف درهم إلا دينارا ، أو مائة دينار إلا ثوبا ، يكون مثبتا للدينار والثوب بالتقدير . [ ص: 378 ]

قال : وأما إذا استثنى من زيد وجهه . أو من الدار بابها ، فاختلف الأصحاب في أنه استثناء الشيء من جنسه ، أو من غير جنسه ، والصحيح أنه من جنسه ، لأن وجه زيد جزء منه . انتهى .

قيل : وهذا الخلاف غريب ، وقد جزم الأصحاب بدخول باب الدار في بيعها ، ولم يحكوا خلافا . قلت : يؤخذ من " المستصفى " الخلاف ، فإنه جزم بأنه من غير الجنس ، وشرط هو قبل ذلك كونه من الجنس .

قال : لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب ، ولا اسم زيد على وجهه ، بخلاف قوله : مائة ثوب إلا ثوبا . قال : وعلى هذا قال قوم : ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس ، وشرط هو قبل ذلك كونه من الجنس ، فجاء الخلاف المذكور ، ويجيء على الثاني قوله : عشرة إلا درهما ، فمنهم من ألحقه بقولك : رأيت زيدا إلا يده ، ومنهم من ألحقه باسم الجملة ، وهو قوله : اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة ، أو إلا زيدا ، وهو الأشبه فيه .

وأما الخلاف الأول ، فذكره الماوردي في " الحاوي " إذ قال : فإن عاد إلى غير جنسه صح عند الشافعي في المعنى دون اللفظ ، وأجازه قوم في اللفظ والمعنى ، وأبطله قوم فيهما .

وقال الطبري في " العدة " في باب الإقرار : إذا جاز الاستثناء من غير الجنس فاختلف أصحابنا : هل هو استثناء من المعنى ، أو من اللفظ على وجهين :

أحدهما : من المعنى ، فإذا قال له علي مائة دينار إلا مائة درهم ، فكأنه استثنى من قيمة الدنانير مائة درهم .

والثاني : من اللفظ ، وظاهر القرآن يشهد لهذا . انتهى . [ ص: 379 ] تنبيهات

الأول : قال ابن فورك في كتابه في الأصول " : ليس المراد بالجنس هنا ما اصطلح عليه المتكلمون ، فإن الجواهر كلها عندهم متجانسة ، بل المراد أن يكون اللفظ موضوعا لجنس يستثنى منه بلفظ لم يوضع لذلك الجنس ، نحو : مالي ابن إلا بنت ، فإن لفظ الابن غير جنس لفظ البنت .

وقال السهروردي : لا نعني بالجنس هنا المنطقي ، فإن الثور مجانس للإنسان ومشارك له في الجنس الأقرب ، بل نعني به غير المشارك في الدخول تحت المحكوم عليه .

قال بعض الحنفية : الأصل كونه من جنسه ، ومعنى المجانسة أن لا يقصر المستثنى منه في المستثنى في الفعل الذي ورد عليه الاستثناء سواء كان راجحا عليه أو لا ، وكذلك قال محمد في " الجامع الكبير " : لو قال : إن كان في الدار إلا رجل فعبدي حر ، فكان في الدار شاة لا يحنث ، لقصور الشاة على الآدمي في الكينونة في الدار ، لأن كينونة الآدمي ، في الدار بطريق الأصالة والاختيار ، وكينونة الشاة بطريق القصر والتبعية ، ولو قال : إن كان في الدار إلا شاة فعبده حر ، فكان فيها آدمي حنث ، لقصور الشاة عن الآدمي في الكينونة .

الثاني : ما ذكرناه من كونه الاستثناء مخصصا يشمل المتصل والمنقطع . وقال بعضهم : الاستثناء من غير الجنس لا تخصيص فيه ولا بيان ، لأنه لا يخرج من المستثنى شيئا ، وإنما هو جملة مستأنفة ، فإن زعم الخصم أنه يخصص به ، وأنه مع المستثنى جملة واحدة ، فذلك اعتراف منه بأنه من الجنس لا من غيره ، وهو المطلوب . [ ص: 380 ]

وقال ابن عطية في تفسير الاستثناء المنقطع يخصص تخصيصا ما ، وليس كالمتصل لأن المتصل يخصص من الجنس أو الجملة ، والمنقطع يخصص أجنبيا من ذلك .

قلت : والتحقيق أن المتصل يخصص المنطوق لأنه مستثنى منه ، وأما المنقطع فيخصص المفهوم ، لأنه مستثنى منه ، فإذا قيل : قام القوم إلا حمارا ، فقيل ورود الاستثناء كان يفهم أنه لم يقم غيرهم ، فالاستثناء حينئذ من المفهوم المقدر ، وحينئذ فإنما يصح جعله مخصصا إذا جعلنا للمفهوم عموما .

التالي السابق


الخدمات العلمية