صفحة جزء
مسألة : يشترط لصحة الاستثناء شروط

أحدها الاتصال بالمستثنى منه لفظا ، بأن يعد الكلام واحدا غير منقطع ، نحو له علي عشرة إلا درهما ، أو حكما بأن يكون انفصاله وتأخره على وجه لا يدل على أن المتكلم قد استوفى غرضه من الكلام كالسكوت ، لانقطاع نفس أو بلع ريق ، فإن انفصل لا على هذا الوجه لغا . ونقل عن ابن عباس أنه جوز الاستثناء المنفصل على نحو ما جوزه من تأخير التخصيص عن العموم والبيان عن المجمل ، ثم اختلف عنه ، فقيل إلى شهر : وقيل إلى سنة ، وقيل : أبدا . [ ص: 381 ] ثم منهم من رده ، وقال : لم يصح عنه ، كإمام الحرمين ، والغزالي ، بما يلزم منه من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق ، لإمكان تراخي الاستثناء ، ويلزم منه أن لا يصح يمين قط . ومنهم من أوله ، كالقاضي أبي بكر بما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ، ثم أظهر نيته بعده ، فإنه يدين ، ومن مذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا .

وقيل : يجوز بشرط أن يقول عند قوله إلا زيدا : أريد الاستثناء ، حكاه الغزالي . وقيل : أراد به استثناءات القرآن ، فيجوز في كلام الله خاصة .

وقد قال بعض الفقهاء : إن التأخير فيه غير قادح ، قال إمام الحرمين : وإنما حملهم خيال تخيلوه من قول المتكلمين الصائرين إلى أن الكلام الأزلي واحد ، وإنما التركيب في جهات الوصول للمخاطبين ، لا في كلام رب العالمين

وقال المقترح : هو باطل لأنهم إن أرادوا المعنى القائم بالنفس ، فلا يدخله الاستثناء ، وكذلك المثبت في اللوح المحفوظ ، لأنه إنما نزل بلغة العرب ، والعرب لا تجوز الاستثناء المنفصل .

وقال القرافي : المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة ، كمن حلف ، وقال : إن شاء الله ، وليس هو في الإخراج بإلا وأخواتها . قال : ونقل العلماء أن مدركه في ذلك { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } قالوا : المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله ، فقل بعد ذلك . ولم يخصص . [ ص: 382 ]

قلت : وفي مستدرك الحاكم ، عن ابن عباس قال : إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة ، وإنما نزلت هذه الآية { واذكر ربك إذا نسيت } قال : إذا ذكر استثنى ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، لكن قال الحافظ أبو موسى المديني : لو صح هذا عنده ، لاحتمل رجوعه إذ علم أن ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أسند ذلك من جهة ابن عباس ، وقد ذكرت طرقه عن ابن عباس في " المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر .

وحكى ابن النجار في " تاريخ بغداد " أن أبا إسحاق الشيرازي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق ، وإذا برجل على رأس سلة فيها بقل ، وهو يحمل على ثيابه ، وهو يقول لآخر معه : مذهب ابن عباس في الاستثناء غير صحيح ، إذ لو كان صحيحا لما قال تعالى لأيوب عليه الصلاة والسلام : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } بل كان يقول له : استثن ، ولا حاجة إلى هذا التحيل في البر .

قال : فقال أبو إسحاق : بلدة فيها رجل يحمل البقل ، وهو يرد على ابن عباس ، لا تستحق أن تخرج منها .

ومثله احتجاج بعضهم بقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } فلو جاز الاستثناء من غير شرط الاتصال لم يكن لشرع الكفارة وإيجابها معنى ، لأنه كان يستثنى . [ ص: 383 ] وقد حكي أن الرشيد استدعى أبا يوسف القاضي وقال له : كيف مذهب ابن عباس في الاستثناء ، فقال له أبو يوسف : إن الاستثناء المنفصل يلحق بالخطاب ويغير حكمه ، ولو بعد زمان . فقال : عزمت عليك أن تفتي به ، ولا تخالفه . وكان أبو يوسف لطيفا فيما يورده ، متأنيا فيما يريده ، فقال له : رأي ابن عباس يفسد عليك بيعتك ; لأن من حلف لك ، وبايعك رجع إلى منزله ، واستثنى . فانتبه الرشيد ، وقال : إياك أن تعرف الناس مذهب ابن عباس ، فاكتمه .

وقال ابن ظفر في " الينبوع " : إذا حققت هذه المسألة ضعف أمر الخلاف فيها . وتحقيقها أنه لا يخلو الحالف التارك للاستثناء من أحد ثلاثة أمور : إما أن يكون نوى الجزم ، وترك الاستثناء ، فما أظن الخلاف يقع في مثل هذا . أو يكون نوى أن يستثني ، ولم ينطق بالاستثناء ، ثم ذكر فتلفظ به ، فلا يحسن أن يعد استثناؤه لغوا . وإما أن يكون ذاهلا عن الأمرين معا ، فهذه الصورة صالحة للاختلاف ، ولا يظهر فيها قول من صحح الاستثناء ، لأن الآية لا تشهد له من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف ، ولا تضمنت الآية ذكر يمين . انتهى . [ ص: 384 ] واعلم أن سبب الخلاف في هذه المسألة : أن الاستثناء هل هو حال لليمين بعد انعقادها ، أو مانع من الانعقاد لا حال ؟ فمن قال : مانع شرط الاتصال . واختلف القائلون بأنه حال ، فقيل : بالقرب ، وقيل : مطلقا من غير تأقيت بالقرب . وفي الباب قوله عليه السلام : { إلا الإذخر } . وحديث سليمان لما قال : لأطوفن الحديث ، { وقوله عليه السلام في صلح الحديبية : إلا سهل بن بيضاء } .

التالي السابق


الخدمات العلمية