صفحة جزء
[ المذاهب في تقدير دلالة الاستثناء ]

ولقوة هذا الإشكال اختلف الأصوليون في تقدير الدلالة في الاستثناء ، وهل هو إخراج قبل الحكم ؟ على ثلاثة مذاهب : [ ص: 395 ]

أحدها : ونسبه ابن الحاجب للأكثرين ، أن المراد بقوله : عشرة ، في قوله : علي عشرة إلا ثلاثة : سبعة . وقوله : إلا ثلاثة قرينة مبينة ، لأن الكل استعمل وأريد به الجزء مجازا ، كالتخصيص بغير الاستثناء . ورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج ، ولأن العشرة نص في مدلولها ، والنص لا يتطرق إليه تخصيص . وإنما التخصيص في الظاهر . وما قاله من الإجماع مردود ، فإن الكوفيين على أن الاستثناء لا يخرج شيئا . فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا ، فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد ، وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بقيام ولا بنفيه . وما قاله من أن العشرة نص فسيأتي في كلامالماوردي الخلاف فيه .

وقد قال بعض الأئمة لا يستقيم غير هذا المذهب لأن الله تعالى قال : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته ، فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من الألف ، كما أن المتكلم بالعشرة مع استثناء الواحد لم يرد منها إلا التسعة .

والثاني : وهو قول القاضي أبي بكر ، أن عشرة إلا ثلاثة بمنزلة سبعة من غير إخراج ، كاسمين وضعا لمسمى واحد ،

أحدهما : مفرد والآخر مركب ، وجرى عليه في " المحصول " ، واختاره إمام الحرمين ، واستنكر قول الأولين ، وقال : إنه محال ، لا يعتقده لبيب . قال ابن الحاجب : وهذا المذهب خارج من قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد ، ولأنا نقطع بدلالة الاستثناء بطريق الإخراج . [ ص: 396 ]

وقال في " شرح المقدمة : إنه غير مستقيم أيضا ، لأنا قاطعون بأن المتكلم بالعشرة يعبر بها عن مدلولها ، وهو خمستان ، وبإلا عن معنى الإخراج ، وبالواحد أنه مخرج ، ولو كان كما قالوا ، لم يستقم فهم هذه المعاني منها ، كما لا يستقيم أن يفهم من بعض حروف التسعة عند إطلاقها على مدلولها معنى آخر .

وهذا الذي قاله مصادرة ، ولا نسلم أنه يفهم من العشرة خمستان مع استثناء الدرهم منها ، بل المفهوم من ذلك تسعة لا غير ، ولا " بإلا " معنى الإخراج ، لأن الاستثناء لغة : الصرف والرد . وقوله : كما لا يستقيم ليس بنظير ما نحن فيه ، إذ عدم فهم ما ذكر لعدم الوضع والاستعمال في غيرها ، والاستثناء مستعمل فيما ذكر لغة وعرفا .

واعلم أن قصد الباجي بهذا القول أن يفرق بين التخصيص بدليل متصل أو منفصل ، فإن كان بدليل متصل فمن الباقي حقيقة ، أو منفصل فإن الباقي مجاز ، ولذلك قال في الاستثناء : إن الكلام بجملته يصير عبارة عن أمر آخر .

والثالث : وهو الصحيح عند ابن الحاجب ، أن المستثنى منه مراد بتمامه ، ثم أخرج المستثنى ، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا ، وإن كان قبله ذكرا ، فالمراد بقولك : عشرة إلا ثلاثة ، عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة ، ثم أسند إلى الباقي تقديرا ، فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج ، ورجحه الهندي وغيره ، ولذلك لا يحكم عالم بلغة العرب بالإسناد قبل تمامه لتوقع التغيير قبله بالاستثناء أو غيره ، وبه يندفع ما أورد على حقيقة الاستثناء من كونه إنكارا بعد الإقرار وتناقضا . والفرق بين هذا المذهب والأول ، أن الأفراد بكمالها غير مرادة في المستثنى منه في الأول لدلالة [ ص: 397 ] الاستثناء عليه ، وفي الثالث مرادة والاستثناء إنما هو لتغير النسبة لا للدلالة على عدم المراد .

ويتفرع على المذاهب أنه هو تخصيص أم لا ؟ فعلى قول القاضي ليس تخصيصا ، وعلى الأول تخصيص قطعا ، وعلى الثالث يحتمل . والظاهر أنه تخصيص خاص لعدهم إياه من التخصيص المتصل وتطرقه إلى النصوص . قيل : ليس بتخصيص ; لأن التخصيص شرطه الإرادة والمقارنة وهي منتفية إلا في قصد الاستثناء .

وقال الهندي في " الرسالة السيفية " الجمع بين احتمال كون الاستثناء تخصيصا على هذا الرأي مع أن الأفراد مرادة بكمالها فيه مشكل ، فإنهم أطبقوا على أن المخصوص غير مراد من الذي خص عنه وجود التناول ، فإن قلت : يخص قولهم ذلك بالاستثناء من غير النصوص .

قلت : الذي قال بالمذهب الثالث لا فرق عنده . أن يكون الاستثناء من ألفاظ العدد أو غيرها ، فإن الكلام في تقدير دلالة الاستثناء مطلق ، وحينئذ يلزم أن يكون هذا المذهب مخالفا لإجماعهم على أن الفرد المخصوص من العام ليس مرادا منه وقال . المازري أصل هذا الخلاف في الاستثناء من العدد هل يكون الاستثناء كقرينة غيرت وضع الصيغة ، أو لم تغيره ، وإنما كشفت عن المراد بها ؟ فمن رأى أن أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها قال بالأول ، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ، ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع الدال على العدد المبقى .

ومن رأى أن أسماء العدد ليست نصا فإن العشرة ربما استعملت في عشرة ناقصة ، رأى أن الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه ، [ ص: 398 ] كما دل قوله : لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله : { اقتلوا المشركين } . قال : وهذا ظاهر على القول بأن دلالة العام على أفراده ظاهرة . فإن قلنا نص فلا يستقيم ، ثم ذكر من الفرق بين التخصيص والاستثناء أن الاستثناء يدخل على النصوص ، والتخصيص لا يدخل عليها .

والحاصل أن مذهب الأكثرين أنك إذا استعملت العشرة في سبعة مجازا دل عليه قولك : إلا ثلاثة ، والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة ، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ، ثم حذفت منها ثلاثة ثم حكمت بالسبعة ، فكأنه قال : له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة ، أو عشرة إلا ثلاثة له عندي . وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه ، فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ، ثم أخرج الثلاثة ، ثم حكم ، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الكيس ، ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي وهو السبعة .

هذا تقرير مذهب ابن الحاجب ، لكن تصريحه بأن الإسناد بعد الإخراج مخالف لمذهب سيبويه أن " إلا " أداة أخرجت من الاسم والحكم ، وهذا إنما يأتي على القول المرجوح أن الإخراج من الاسم فقط .

ويرد عليه أيضا أن المفرد لا يستثنى منه ، ولو استثني منه لم ينتظم أن يقال : العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ، كما هو مذهب كثير من النحاة . والتحقيق أن المراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج ، لأن الإسناد للجملة إنما يتبين معناه بآخر الكلام ، فإن عطف عليها " بأو " كان [ ص: 399 ] ثابتا لأحد الأمرين ، وإن عطف عليها بالواو كان ثابتا للمجموع وإن استثني منه كان ثابتا لبعض مدلولها وليس الاستثناء مبينا للمراد بالأول ، بل يحصل الإخراج

والحاصل قبله قصد أن يستثنى لا بقصد المعنى ، حتى لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ، ووقع الاستثناء بعد موتها ، طلقت ثلاثا ، ولو كان مبينا لزمه وعلى هذا لا يسمى تخصيصا

التالي السابق


الخدمات العلمية