صفحة جزء
[ ص: 411 ] مسألة

الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة يمكن عوده لجمعها ولبعضها . ومثله ابن كج في كتابه بقوله : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } إلى قوله : { إلا من تاب } فيه مذاهب

أحدها : وهو قول الشافعي كما قاله الماوردي والروياني أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل كقوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية ونقله البيهقي في سننه " في باب شهادة القاذف عن نص الشافعي ، فقال قال الشافعي : والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل اللغة لا يفرق بين ذلك أحد انتهى

وقال في " الأم " في باب الخلافة في إجازة شهادة القاذف : قال الشافعي لمن يناظره : أرأيت رجلا لو قال : لا أكلمك أبدا ، ولا أدخل [ ص: 412 ] لك بيتا ، ولا آكل لك طعاما ، ولا أخرج معك سفرا ، وإنك لغير حميد عندي ، ولا أكسوك إن شاء الله ، أيكون الاستثناء واقعا على ما بعد غير حميد عندي ، أم على الكلام كله ؟ قال : بل على الكلام كله . انتهى .

وقال القفال الشاشي : إنه الذي جرى عليه الشافعي . وقال القاضي أبو الطيب . إنه المحكي عن الشافعي وأصحابه ، قال : وما وجدت من كلامه ما يدل عليه إلا أنه قال في كتاب " الشاهد واليمين " إذا تاب ، قبلت شهادتهم ، ذلك بين في كتاب الله تعالى ، وهذا يدل على أن الاستثناء رده إلى الفسق ورد الشهادة .

وقد استدل أبو إسحاق المروزي وغيره من أصحابنا على قبول شهادته بعموم الاستثناء ، وأنه راجع إلى الجميع انتهى .

وقال المازري : نسبه ابن القصار لمالك ، وهو الظاهر من مذاهب أصحابه ، وحكاه صاحب " المصادر " عن القاضي عبد الجبار . وقال ابن القشيري : قال القاضي : لو قلنا بالعموم فأوضح المذاهب صرفه إلى الجميع ، وهذا الراجح عند الحنابلة ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال : في قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه } قال : أرجو أن يكون الاستثناء على كله .

والثاني : أنه يعود إلى الأخيرة خاصة ، إلا أن يقوم الدليل على التعميم . وهو قول أبي حنيفة وأكثر أصحابه . واختاره الإمام فخر الدين في [ ص: 413 ] المعالم " وقال الأصفهاني في " القواعد " : إنه الأشبه ، ونقله صاحب " المعتمد " عن الظاهرية ، وحكاه صاحب عن أبي عبد الله البصري ، وأبي الحسن الكرخي ، وإليه ذهب أبو علي الفارسي ، وحكاه إلكيا الطبري وابن برهان عن الفارسي واختاره المهاباذي من النحويين في " شرح اللمع "

وقد يظن أن ذلك مذهب الشافعي ، فإن الشيخ أبا إسحاق قال : وإن قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ففيه وجهان : أحدهما : تطلق طلقة . والثاني : وهو المنصوص أنها تطلق طلقتين . لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه ، وهو الطلقة واستثناء طلقة من طلقة باطل ، فيسقط . وتبقى الطلقات . انتهى .

وقال ابن الصباغ في كتاب الطلاق : قال في " البويطي " : إذا قال : أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعا ، وقعت ثلاثا . وهذا إنما هو لأنه أوقع جملتين ، واستثنى إحداهما بجملتها ، فلم يقع لأن الاستثناء يرجع إلى الأخير من الجملتين . أي ولو عاد إلى الجميع لوقع طلقتان ، وكأنه قال : ستا إلا أربعا ا هـ .

والجواب أنه ليس المأخذ ما ظنوه ، وإنما قاله الشافعي مفرعا على أن المفرق لا يجمع ، وهو الأصح . فإن قلنا : يجمع وقع طلقتان ، وكأنه قال : ستا إلا أربعا ، تفريعا على أن الاستثناء يرجع إلى الملفوظ ، فإن عاد إلى المنوي وقع الثلاث ثم إن هذا لبس ، ويدل لهذا قول [ ص: 414 ] القاضي أبي الطيب في باب الإقرار من " تعليقه " : لو قال : علي درهم ودرهم إلا درهما ، فالذي نص عليه الشافعي أنه يلزمه درهمان ، لأنه ذكر جملتين ، ثم عقبهما بالاستثناء ، والاستثناء يرجع لما يليه ، وهو يستغرقه ، فلا يبقى شيء فيبطل . كما لو قال : علي درهم إلا درهما لا يصح الاستثناء ، فكذلك هنا . وكذلك لو قال : أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة يقع طلقتان . ونص الشافعي على هذه المسألة في كتاب إباحة الطلاق

قال القاضي : ومن أصحابنا من خرج فيها وجها أنه يصح الاستثناء ، ويلزمه درهم واحد ، وطلقة واحدة ، واحتج بأن الجملتين إذا كان بينهما حرف العطف كانتا بمنزلة الجملة الواحدة ، فهو بمنزلة أن يقول : علي درهمان إلا درهما ، وأنت طالق طلقتين إلا طلقة . وهذا خلاف النص ، وإن كان له وجه . انتهى .

وتمسك القائلون بهذا بأن الموجب لتعليق الاستثناء بالمتقدم كونه لا يفيد بنفسه ، فإذا تعلق بالأخيرة صار مفيدا فلا حاجة إلى صرفه إلى غيره . ولنا أن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة ، فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعا ، فإن فرق بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر ، فيجوز أن يوقف ما قبل الآخر على الاتصال بالشرط ، ولا كذلك الاستثناء . قلنا : هذا لا يؤثر في الجمع إذ تعليقه على ما يليه لا يمنع من تعليقه على ما تقدم والذي يليه والمتقدم والمتأخر في هذا الفرق سواء .

قال القرطبي : وقد خالف أبو حنيفة أصله ، فإنه يلزمه أن لا يقبل التوبة قبل الحد ولا بعده ، كما ذهب إليه شريح ، لكنه قال بقبولها قبله لا بعده ، فخالف أصله [ ص: 415 ] تنبيه

قياس مذهب الحنفية أن الاستثناء إذا تقدم اختص بالجملة الأولى ، لأنها التي تليه ، ويحتمل خلافه

والثالث : والوقف بين الأمرين ، فيجوز أن يصرف إلى الأول وإلى المتوسط وإلى الأخير ; ولكن في الحال توقف ، والمتبع الدليل ، فإن قام دليل على انصرافه لأحدها صرنا إليه .

قال أبو الحسين بن فارس في كتاب " فقه العربية " : فإن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد ، كآية المحاربة ; وإن دل على منعه امتنع ، كآية القذف . قال سليم في " التقريب " : وهو مذهب الأشعرية . وحكاه ابن برهان عن القاضي واختاره الغزالي ، والإمام فخر الدين في " المنتخب " ، وصرح به في " المحصول " في الكلام على التخصيص ، وحكاه إلكيا الطبري عن اختيار إمام الحرمين . قال فقيل له : فقد قال الشافعي : إذا قال الواقف : وقفت داري على [ بني ] فلان ، وحبست أرضي على بني فلان ، وذكر نوعا آخر ، ثم قال : إلا الفساق ، فيصرف الاستثناء إلى الكل .

فأجاب بأن ذلك ليس لظهور الاستثناء في الأنواع ، ولكن للتعارض بين الأمرين . وهما احتمال عوده إلى الجميع ، أو إلى ما يليه ، والتوقف فيه ، ولا صرف مع التوقف

قال إلكيا : وهذا المأخذ غير مرضي . فإن التوقف في المستثنى ، يوجب التوقف في المستثنى منه ، حتى لا ينصرف إلى العدول أيضا . ونحن نصرف [ ص: 416 ] كل المال إلى العدول ، والتوقف يقتضي التوقف في حق الكل ، فإنا لا ندري أنهم يستحقون أم لا ، وهو كالتوقف في الميراث للحمل .

ونقل ابن القشيري والمازري عن إمام الحرمين مسلك التفصيل في التوقف ، فرأى أن الجمل إن كانت متناسبة ، والغرض منها متحد ، فاللفظ متردد ، ولا قرينة ; وإن كانت مختلفة الجهات متباينة المأخذ ، فالظاهر الاختصاص بالجملة الأخيرة لانقطاع ما بين الجمل في المعنى والغرض ; وإن أمكن انعطافه على جميعها وهذا ما اختاره إلكيا الطبري ، فقال : نعم ، لو تباينت الجمل في الأحكام بأن يذكر حكما ، ثم يأخذ في حكم آخر . فالأول : منقطع والاستثناء لا يعمل فيه ، وإن صرح به ، والواو هنا لا تعد مشركة ناسفة للنظم ، كقولك : ضرب الأمير زيدا ، وخرج إلى السفر ، وخلع على فلان . قال : وهذا حسن جدا ، وبه تهذب مذهب الشافعي ، ويغني عما عداه .

واعلم أنهم حكوا قول الوقف عن الشريف المرتضى ، وأنه يغاير مذهب القاضي من جهة أن القاضي توقف لعدم العلم بمدلوله لغة ، والمرتضى توقف لكونه عنده مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده إلى الأخير فقط ، وهو من باب الاشتراك في المركبات لا في المفردات .

قلت : والذي حكاه صاحب " المصادر " عن الشريف المرتضى أنه يقطع بعوده إلى الجملة الأخيرة ، وتوقف في رجوعه إلى غيرها لما تقدم ، فجوز صرفه إلى الجميع ، وقصره على الأخيرة ، كمذهبه في الأمر ، هذا لفظه ، وهو أثبت منقول عنه ، لأنه على مذهبه الشيعي .

والرابع : إن كانت الجمل كلها سيقت لمقصود واحد انصرف إلى [ ص: 417 ] الجميع ، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة . حكاه ابن برهان في " الأوسط " عن عبد الجبار

والخامس : إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله : أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة ، اختص بالأخيرة ، وإن ترددت بين العطف والابتداء فالواقف .

والسادس : إن كانت الجملة الثانية إعراضا وإضرابا عن الأولى اختص بالأخيرة ، وإلا انصرف إلى الجميع . حكاهابن برهان عن أبي الحسين البصري . والذي وجدته في " المعتمد " حكاية هذا عن عبد الجبار ، وسكت عليه أبو الحسين ، وقرر دليله .

وحكي في " المحصول " عن أبي الحسين أنه إن كان بينهما تعلق عاد إلى الجميع ، وإلا اختص بالأخير . وقال : إنه دخل التحقيق ، وإنه حق ، ثم قال ابن برهان : والحق في ذلك قول أبي الحسين البصري وهو المعتمد ، وهو مذهب الشافعي ، قال : ولم ينقل عن الشافعي نص في هذه المسألة بخصوصها ، وإنما أخذ من مذهبه في مسألة المحدود بالقذف ونحن نبين أن الشافعي إنما صار إلى ذلك لأن ذكر الجمل هناك لم يكن إضرابا عن الجملة المتقدمة ، لأن الآيات سيقت لغرض واحد ، هو الجزاء على تلك الجريمة . انتهى .

وقد اختاره ابن السمعاني في " القواطع " أيضا ، فقال : إذا لم يكن خروجا من قضية إلى قضية أخرى لا يليق بها عاد إلى الكل وإلا اختص بالأخيرة ، ونظيره : اضرب بني تميم والأشراف هم قريش ، إلا أهل البلد الفلاني . وهذا لأنه لما عدل الأول إلى مثل هذا ، وأحدهما لا يليق [ ص: 418 ] بالآخر ، أو أحدهما قضية والأخرى قضية أخرى ، دل على أنه استوفى غرضه من الأول ، لأنه لا شيء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى نوع آخر من الكلام . وعلى هذا إذا قال : من استقامت طريقته فأكرمه ، ومن عصاك فاضربه إلا أن يتوب ، فالاستثناء ينصرف إلى ما يليه أيضا . انتهى .

وحاصله أنه إن صلح العود إلى الكل عاد إليه ، وإلا فلا ، وهذا تحرير لمذهب الشافعي في الحقيقة كما سيأتي ، فلا ينبغي أن يعد مذهبا آخر .

وقال في المقترح : لا خلاف في صلاحية اللفظ لعوده إلى الجميع أو البعض ، وإنما النزاع في أنه هل هو ظاهر في الجميع ، ولا يحمل على الأخيرة إلا بدليل أو بالعكس ؟ فأبو حنيفة يقول بالثاني ، والشافعي بالأول .

وقال صاحب " المصادر " : الخلاف في هذه المسألة إنما نشأ من اختلافهم في الفروع من المحدود في القذف ، هل تقبل شهادته بعد التوبة أم لا ؟ على معنى أنهم اختلفوا في هذه المسألة التي هي فرع ، حداهم هذا الاختلاف الذي هو أصل لذلك الفرع ، لا أنهم ذهبوا فيما هو فرع هذا الأصل إلى مذاهب ، ثم رتبوا عليه هذا الأصل ، لأن هذا عكس الواجب من حيث إن الفرع يترتب على أصله ، ويستوي عليه لا أن يترتب الأصل على فرعه ويستوي عليه على مقدار المبتاع في أنه غير صحيح ولا يستقيم ، إذا الصحيح المستقيم أن يستوي مقدار المبتاع الموزون على الصنجة المعتدلة . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية