صفحة جزء
واعلم أن للقول بعوده إلى الجميع عندنا شروطا :

الأول : أن تكون الجمل متعاطفة ، فإن لم يكن عطف ، فلا يعود إلى الجميع قطعا ، بل يختص بالأخيرة إذ لا ارتباط بين الجملتين . وممن صرح بهذا الشرط القاضيان : أبو بكر في " التقريب " ، وأبو الطيب الطبري ، [ ص: 419 ] والشيخ أبو إسحاق ، وابن السمعاني ، وابن القشيري ، والآمدي ، وابن الساعاتي ، والهندي ، وغيرهم . وأما من أطلق فأمره محمول على أنه سكت عن ذلك لوضوحه . وأمثلتهم وكلامهم يرشد إلى أن المسألة مصورة بحالة العطف . ويدل لذلك قول أصحابنا في كتاب الطلاق : لو قال : يا طالق أنت طالق ثلاثا إن شاء الله ، أن الاستثناء منصرف إلى الثلاثة ، ووقعت واحدة بقوله : يا طالق ، ولو كان العطف يشترط ، لكان الاستثناء عائدا إلى الجميع

وأما ما فهمه القرافي من جريان الخلاف ، وإن لم يعطف ، فغره إطلاق الرازي وغيره ، فإنه إذا لم يكن عطف فلا ارتباط بينهما . نعم ، ذكر البيانيون أن ترك العطف قد يكون لكمال الارتباط بين الجملتين ، كقوله تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } فإذا كان مثل ذلك فلا يبعد مجيء الخلاف ، ويحتمل أن يقال : إنهما كالجملة الواحدة ، لأن الثانية كالمؤكدة للأولى ، فيعود للجميع قطعا .

وقد حكى الرافعي باب الاستثناء في الطلاق به لو قال : أنت طالق ، أنت طالق ، إن شاء الله ، وقصد التأكيد أنه يعود للجميع . ولم يحك فيه خلافا . وكذا لو قال : أنت طالق واحدة ثلاثا إن شاء الله من غير واحد ، فلا يقع شيء ، لأن الواحدة المتقدمة عائدة إلى الثلاث ، والاستثناء راجع إلى جميع الكلام ، نعم ، قال القرافي في " كتاب الأيمان " فيما لو قال : إن شاء الله أنت طالق ، عبدي حر ، أنها لا تطلق ، ولا يعتق . قال : وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما جميعا فإن أطلق فيشبه أن يجيء فيه خلاف في أنه يختص بالجملة الأولى ، أم [ ص: 420 ] يعمهما ؟ قال في " الروضة " : قلت : الصحيح التعميم . واستفدنا من هذا فائدتين : إحداهما : أن الخلاف جار مع عدم العطف . والثانية : أن المسألة لا تخص بما إذا تأخر الاستثناء ، بل تكون في حالة تأخره ، وحالة تقدمه ، وهو خلاف قول الأصوليين في الاستثناء إذا تعقب جملا . وهي مسألة حسنة .

الشرط الثاني : أن يكون العطف بالواو ، فإن كان بثم اختص بالجملة الأخيرة . ذكره إمام الحرمين في تدريسه ، حكاه عنه الرافعي في باب الوقف ، بعد أن صرح أن أصحابنا أطلقوا العطف . وعليه جرى الآمدي ، وابن الحاجب ، وابن الساعاتي ، والعجب أن الأصفهاني في " شرح المحصول " حكاه عن الآمدي ، وقال : لم أر من تقدمه به ; لكن ذكر الإمام في " النهاية " من صور الخلاف التمثيل : بثم ، وصرح بأن مذهبنا عوده إلى الجميع ، والظاهر أن " ثم ، والفاء ، وحتى " مثل " الواو " في ذلك . وقد صرح القاضي أبو بكر في " التقريب " " بالفاء " وغيرها ، فقال : وهذه سبيل جمل عطف بعضها على بعض بأي حروف العطف عطفت ، من " فاء ، وواو " وغيرها . انتهى .

وأطلق ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق أن صورة المسألة أن يجمع بين الجمل بحرف من حروف العطف جامع في مقتضى الوضع ، ويوافقه ما ذكره ابن الصباغ في كتاب " العدة " فإنه قال : ومن أصحابنا من احتج بأن واو العطف تشترك بين الجملتين فتجعلان كالجملة الواحدة ، وهذا يخالف ما نص عليه الشافعي ، فإنه قال : إذا قال أنت طالق ، وطالق ، فطالق ، إلا واحدة لم يصح الاستثناء ، ولو كان الإيقاع جملة واحدة صح الاستثناء . هذا لفظه ، وهو صريح في أنه لا فرق بين الواو والفاء . وإن كانت للترتيب . [ ص: 421 ] وأما بقية حروف العطف فلا يتأتى فيها ذلك ، لأن " بل ، ولا ، ولكن " لأحد الشيئين بعينه ، فلا يصح عوده إليهما ، وكذلك " أو ، وأم ، وأما " لأحد الشيئين لا بعينه لكن الماوردي وغيره مثلوا المسألة بآية المحاربة ، مع أن العطف فيها ب " أو " وحكى الرافعي الخلاف في " بل " قبيل الطلاق بالحساب فقال : لو قال أنت طالق واحدة بل ثلاثا ، إن دخلت الدار ، فوجهان أصحهما - وبه قال ابن الحداد - تقع واحدة ، بقوله : أنت طالق ، وثنتان بدخول الدار . ردا للشرط إلى ما يليه خاصة . والثاني يرجع الشرط إليهما جميعا ، إلا أن يقول : أردت تخصيص الشرط بقولي : بل ثلاثا .

الثالث : أن لا يتخلل الجملتين كلام طويل ، فإن تخلل اختص بالأخيرة ، كما لو قال : وقفت على أولادي ، فمن مات منهم وأعقب كان نصيبه لأولاده للذكر مثل حظ الأنثيين ، وإلا فنصيبه لمن في درجته ، فإذا انقرضوا صرف إلى إخواني فلان وفلان الفقراء إلا أن يفسقوا . حكاه الرافعي عن إمام الحرمين . والمعنى أن طول الفصل يشعر بقطع الأولى عن الثانية

الرابع : أن تكون الجمل منقطعة ، بأن تنبئ كل واحدة عما لا تنبئ عنه أخواتها . ذكره أبو نصر بن القشيري . قال : فإن توالت عبارات كلها تنبئ عن معنى واحد ، ثم عقبها باستثناء ، كقولك : اضرب العصاة ، والجناة ، والطغاة ، والبغاة إلا من تاب ، رجع الاستثناء إلى الجميع قطعا . ويوافقه ما لو قال : أنت طالق أربع مرات بنية التكرار ، وقال في الرابعة : إن شاء الله ، ففي فتاوى الغزالي : أنه راجع إلى الجميع قال : لأن الكلام ما دام متصلا برابطة التأكيد كان كالجملة الواحدة . [ ص: 422 ]

الخامس : أن يكون بين الجمل تناسب . فإن لم يكن بينها تناسب لا يصح العطف فضلا عن إرادة البعض أو الكل . وهذا الشرط اعتبره البيانيون في صحة عطف الجمل ، فمنعوا عطف الإنشاء على الخبر ، وعكسه . ووافقهم ابن مالك ، لكن أكثر النحويين على الجواز مطلقا .

وعلى الأول فلا يحسن التمثيل بآية القذف ، لأن قوله : { وأولئك هم الفاسقون } جملة خبرية . عطفت على إنشائية ; لكن يقال : وإن كانت خبرية لفظا . لكنها إنشائية معنى . نعم ، من اشترط في عطف الجمل اتفاقهما في الاسمية أو الفعلية ، حتى لو اختلفتا امتنع ، لم يحسن أن تكون الآية منه ، فإن قوله : { وأولئك هم } جملة اسمية ، وقوله : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } جملة فعلية ، بل " الواو " هنا للاستئناف أو الابتداء ، وإذا كان كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله لم ينصرف الاستثناء إليه .

السادس : أن يمكن عوده إلى كل واحدة على انفرادها ، فإن تعذر عاد إلى ما أمكن ، أو اختص بالأخيرة . قاله القفال الشاشي ، وابن فورك ، والقاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " وإلكيا الطبري في " التلويح " .

قال القفال : وهذا كآية الجلد ، فلا يمكن عود الاستثناء فيها إلى الأول ، لأنه تعلق به حق آدمي ، ولهذا لا يسقط عنه الجلد بالتوبة ، وإن قبلت شهادته ، وزالت عنه سمة الفسق لأنه من حقوق الآدميين ، فالتوبة لا ترفعه إنما ترفع حق الله تعالى .

وحكى الرافعي في باب " قاطع الطريق " عن ابن كج أنه حكى قولا عن الشافعي في القديم بسقوط الجلد بالتوبة وبه قال الزهري ، وحكاه النحاس في " معاني القرآن " عن الشافعي أيضا . فعلى هذا يخرج له في هذه [ ص: 423 ] المسألة الأصولية قولان . ثم أكثرهم يمثلون الآية بهذا الأصل ، ومنهم من قال : على تقدير نظم الاختصاص بالأخيرة : إن الأخيرة هي عدم قبول الشهادة فإنه المحكوم به ، وأما سمة الفسق فهي علة هذا الحكم ، فالاستثناء إذا تعقب حكما وتعليلا ; فإما أن يرجع إلى الكل ، أو إلى الحكم دون التعليل ; لأنه المقصود . ولا سبيل إلى رجوعه إلى التعليل فقط .

قال الفقهاء : وكذا قوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فالاستثناء يرجع إلى الأخيرة ، لأن الدية حق آدمي ، فيسقط بالعفو ، والرقبة حق الله ، فلا يسقط بالعفو من الآدمي . وكذا قال الماوردي وغيره . قال ابن أبي هريرة في تعليقه : إن الاستثناء في قوله تعالى : { إلا عابري سبيل } يعود على الذي يليه ، وهو الجنب ، لا السكران ; فإن السكران ممنوع من دخول المسجد ، لما لا يؤمن من تلويثه إياه .

وخرج من هذا الشرط ما لو قال : أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ، فإن المنصوص للشافعي كما حكاه القاضي أبو الطيب ، والشيخ في " المهذب " ، وابن الصباغ ، وعليه جمهور الأصحاب : لأنها تطلق طلقتين ، لأنه يمكن عود الاستثناء إلى ما يليه للاستغراق ، فيسقط ويبقى الطلقتان . ولا يظن أن هذا مخالف للقاعدة الأصولية ، لأن شرط الرجوع إلى الكل ما ذكرناه ، هو مفقود هاهنا . ولو قال : له درهمان ودرهم إلا درهما ، لزم ثلاثة على الأصح المنصوص ، لأنه استثنى درهما من درهم قاله الرافعي باب الإقرار وقد استشكل ذلك صاحب " الوافي " في " شرح المهذب " ، فقال : هذا مذهب الشافعي في الفروع ومذهبه ، في الأصول أن الاستثناء يعود إلى الجميع ، ولا أعلم الفرق إلا أن يقال : إنه [ ص: 424 ] هاهنا احتاط في وقوع الطلاق ، وليس بشيء . انتهى . وقد علمت جوابه .

السابع : أن يكون المعمول واحدا كقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } الآية فإن كان العامل واحدا والمعمول متعددا ، فلا خلاف في عوده إلى الجميع ، كقوله : اهجر بني فلان وبني فلان إلا من صلح . فالاستثناء من الجميع ، إذا لا موجب للاختصاص ، ولو ثبت موجب فعل بمقتضاه ، نحو لا تحدث النساء ولا الرجال إلا زيدا وقد تضمنت الأمرين آية المائدة { حرمت عليكم الميتة } فاشتملت على ما فيه مانع ، وهو ما أهل به لغير الله ، وما قبله ، وهو { و ما أكل السبع } و { إلا ما ذكيتم } فهو مستثنى من الخمسة ، إذ كانت تذكيته سبب موته .

قال ابن مالك : اتفق العلماء على تعلق الشرط بالجميع في نحو : لا تصحب زيدا ، ولا تزن ، ولا تكلم ، إلا تائبا من الظلم ومذهب أبي حنيفة والشافعي تساوي الاستثناء والشرط في التعلق بالجميع . وهو صحيح للإجماع على سد كل واحد مسد الآخر ، نحو اقتل الكافر إن لم يسلم ، واقتله إلا أن يسلم . انتهى .

الثامن : أن يتحد العامل ، فإن اختلف خص بالأخيرة . ذكره ابن مالك ، ونحو اكسوا الفقراء ، وأطعموا أبناء السبيل ، إلا من كان مبتدعا ، وصرح إلكيا الطبري بأن الشرط اتحاد العامل والمعمول . قال : فإن اختلفا اختص بما يليه ، ونحو ضرب الأمير زيدا وخرج إلى السفر ، وخلع علي فلان . قال : وهو حسن جدا . وبه يتهذب مذهب الشافعي . ا هـ .

والظاهر أن المراد اتحاده لفظا أو معنى ، فإن إمام الحرمين جعل من الأمثلة : وقفت ، وحبست ، وتصدقت ، ومن أمثلته في الصفة إذ لا فرق بينهما وبين الاستثناء قوله تعالى : { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } فإن [ ص: 425 ] الشافعي يجعل هذا الوصف وهو قوله : { اللاتي دخلتم بهن } مختصا بالأخيرة ، وهي قوله : { وربائبكم } لأن الربيبة عنده لا تحرم إلا بالدخول ، وأم الزوجة تحرم بالعقد ، وإن لم يدخل . قال المبرد والزجاجي : وإنما كان كذلك لاختلاف العامل ، إذ العامل في قوله : { وأمهات نسائكم } الإضافة ، وفي { ربائبكم } حرف الجر الذي هو قوله : { من نسائكم } فلما اختلف العامل أشعر بانقطاع الأولى عن الثانية . ولك أن تقول : إذا جعلنا العامل في الإضافة حرف الجر المقدر اتحد العامل على كل تقدير ، وهذا الشرط أيضا مخرج مما نقله ابن الحاجب عن أبي الحسين البصري .

التاسع : أن يكون في الجمل ، فإن كان في المفردات عاد للجميع اتفاقا ونقله ابن القشيري عن اختيار إمام الحرمين ، ومثله بقولك : أكرم زيدا وعمرا وبكرا إلا من فسق منهم . ويؤخذ من كلام إمام الحرمين في " البرهان " وابن الحاجب في جواب شبهة الخصم : أن ذلك محل وفاق ، وحينئذ فتعبير أصحابنا بالجمل ليس للتقيد ، وإنما جرى الغالب . نعم نص الشافعي على أنه إذا قال : أنت طالق طلقة وطالقة إلا طلقة ، أنها تطلق ثنتين ، فجعل الاستثناء لما يليه في المفردات .

ومن المهم معرفة المراد بالجملة في هذا الموضوع ، فالمشهور أنها المركبة من الفعل والفاعل ، أو المبتدأ والخبر . وخالف في ذلك ابن تيمية ، وقال : إنما المراد بها اللفظ الذي فيه شمول ، ويصح إخراج بعضه ، ولهذا ذكروا من صورها الأعداد واحتج بآية المحاربة { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } إلى قوله : { إلا الذين تابوا } قال : وإنما هي من الجملة بالمعنى الذي فسرناه ، وبما روى الصحابة ، أن [ ص: 426 ]

قوله : { إلا الذين تابوا } في آية القذف عائد إلى الجملتين . وقوله عليه السلام : { لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه } .

العاشر : أن يكون الاستثناء متأخرا على ظاهر عباراتهم بالتعقيب ، لكن الصواب أن ذلك ليس بشرط ، والخلاف جار في الجميع كما صرح به الرافعي في كتاب " الأيمان " ، وقد سبق التنبيه عليه في الشرط الأول .

وقد صرح القفال في فتاويه " بعود الصفة السابقة إلى الجميع ، فقال فيما إذا وقف على محاويج حتى يستحقوا ، لأنه معطوف على محاويج أقاربه : والمحاويج هم الذين يكون لهم حاجة بحيث يجوز لهم أخذ الصدقة . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية