صفحة جزء
[ ص: 459 ] الرابع ] [ التخصيص بالغاية ]

وهي نهاية الشيء ومنقطعه وهي حد لثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها . ولها لفظان " حتى ، وإلى " كقوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم } وقوله : { وأيديكم إلى المرافق } ونحو أكرم بني تميم ، حتى يدخلوا أو إلى أن يدخلوا ، فيقتضي تخصيصه بما قبل الدخول .

والمقصود بالغاية ثبوت الحكم لما قبلها ، والمعنى يرتفع بهذه الغاية ، لأنه لو بقي فيما وراء الغاية لم تكن الغاية منقطعا ، فلم تكن الغاية غاية ; لكن هل يرتفع الحكم من غير ثبوت ضد المحكوم عليه أم تدل على ثبوت المحكوم عليه فقط ؟ هو موضوع الخلاف كما في الاستثناء ، والمختار الأول .

وأما ما جعل غاية في نفسه فهل يندرج في حكم المعنى أم لا ؟ فيه الخلاف الآتي في المفهوم . فإذا قلت : اشتريت من كذا إلى كذا ، أو من كذا حتى كذا ، فلا خلاف فيما قبل الغاية أنه . داخل وأن ما بين مبتدأ الغاية ومنتهاها داخل إنما الخلاف فيما بعد الغاية ، منهم من فرق بين " حتى " فتدخل و " إلى " فلا تدخل .

قال الماوردي والروياني : ويتعلق بالغاية إثبات ونفي كالاستثناء [ ص: 460 ] والشرط ، إذ الشرط موجب لثبوت الحكم بعده ، ولا يبقى به قبله ، والغاية موجبة لثبوت الحكم قبلها لا بعدها . فإن تعلق بالغاية شرط الإثبات بهما والنفي بأحدهما ، كقوله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } وهذا غاية . ثم قال : { فإذا تطهرن فأتوهن } وهذا شرط ، فلا يستباح وطؤها إلا بالغسل بعد انقطاع الدم ، وتنتفي الاستباحة بعدمهما ، أو عدم أحدهما من غاية أو شرط . وكذا جعل ابن السمعاني الآية من تعليق الحكم بغاية وشرط ، والغسل شرط ، فكانا معتبرين في إباحة الإصابة .

وقال الأصوليون : يجوز أن يجعل للحكم غايتان كهذه الآية . وقال في المحصول " : الغاية هي الأخيرة ، لأنها الذي يترتب عليها الحكم ، وسميت الأولى غاية مجازا لقربها من الغاية واتصالها بها ، ونوزع بأن هاتين غايتان لشيئين فما اجتمع غايتان ، لأن التحريم الناشئ عن دم الحيض غايته انقطاع الدم ، فإذا انقطع حدث تحريم آخر ناشئ عن عدم الغسل ، فالغاية الثانية غاية هذا التحريم الثاني . وقال غيره : ليس هنا غايتان ، لأنهم قالوا : لها حرفان " حتى ، وإلى " وليس هنا غير " حتى " ، فلو كان الحرفان هنا لأمكن ما قالوا ، وإنما هو نظير قولك لا تكرم زيدا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فأكرمه وأيضا فإن كان على قراءة التشديد في ( يطهرن ) فالغاية واحدة وهي تأكيد للمعنى الأول على قراءة التخفيف ، أي ينقطع حيضهن ، فبعده { فإذا تطهرن } أي اغتسلن ، وهو شرط ، فيتعارض مفهوم الغاية ومفهوم الشرط ، فأيهما يقدم ؟ الظاهر تقديم مفهوم الشرط ، [ ص: 461 ] وحمل القرآن على تكثير الفوائد من حمله على التأكيد .

وحكى التبريزي في اختصار المحصول " : فيما إذا كانت الغاية لها جزءان أو أجزاء خلافا في أن الغاية هي الأولى أم الأخيرة ؟ قال القرافي : ولم أره إلا فيه ، وغيره يحكي الاندراج مطلقا ، ولم يتعرض للأجزاء . قلت : وهو قريب من الخلاف الفقهي في أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بمجرد غسله أم يتوقف على تمام الأعضاء ؟ الأصح الأول . فقوله صلى الله عليه وسلم { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } فالحدث مغيا بالوضوء ، والوضوء ذو أجزاء فهل يرتفع عن العضو بمجرده ، أم لا يرتفع شيء منه حتى توجد الغاية بتمامها ؟ وكذلك قوله { إذا تطهر فلبس خفيه } هل المراد تطهر طهرا كاملا ، أو طهرا ما حتى غسل رجلا . وأدخلها ، ثم أخرى وأدخلها جاز ؟ وفيه خلاف ، هذا مأخذه .

وحكى غيره مذهبا ثالثا بالتفصيل ، فقال : إن كانت منفصلة عن ذي الغاية كقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فالغاية أول جزء منه ، وإن لم تكن منفصلة كقوله : { وأيديكم إلى المرافق } فالغاية آخر جزء من أجزائها .

واعلم أن الأصوليين أطلقوا كون الغاية من المخصصات ، قال بعض المتأخرين : وهذا الكلام مقيد بغاية تقدمها لفظ يشملها ، لو لم يؤت بها ، كقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا المشركين ، أعطوا الجزية أو لم يعطوها . ووراءه صورتان :

إحداهما : غاية لم يشملها العموم ولا صدق عليها اسمه ، فلا يؤتى بها [ ص: 462 ] إلا لعكس ما يؤتى بالغاية في القسم قبله ، فإن تلك يؤتى بها لتخصيص العموم أو تقييد المطلق ; وهذه يؤتى بها لتحقيق العموم وتأكده وإعلام أنه لا خصوص فيه ، وأن الغاية فيه ذاكرة بحال قصد منه أن يتعقب الحال الأولى بحيث لا يتخللها شيء .

ومثاله قوله عليه الصلاة والسلام : { رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق } . فحالة البلوغ والاستيقاظ والإفاقة تضاد حالات الصبا والنوم والجنون ، وقصد بالغاية هنا استيعاب رفع القلم لتلك الأزمنة بحيث لم يدع ولا آخر الأزمنة الملاصقة للبلوغ والاستيقاظ والإفاقة ، وهذا تحقيق للعموم .

ومنه قوله تعالى : { حتى مطلع الفجر } قصد به تحقيق أن الحالة الملاصقة لطلوع الفجر مما شمله " سلام " بما قبلها بطريق الأولى . وكذلك قوله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } فإن حالة الطهر لا يشملها اسم الحيض .

والصورة الثانية : غاية شملها العموم ، أتت أو لم تأت ، فهذه أيضا لا يؤتى بها إلا لتحقيق العموم ، كقولك : قرأت القرآن من فاتحته إلى خاتمته . المراد تحقيق قراءتك للقرآن كله ، بحيث لم تدع منه شيئا ، وكذلك قطعت أصابعه من الخنصر إلى البنصر ، المراد تحقيق العموم واستغراقه لا تخصيصه . انتهى .

وحاصله أن ما يشمله العموم لو لم يأت هو مراد الأصوليين ، ووراءه صورتان : ما لم يشمله ألبتة ، وما يشمله وإن أتت . وهاتان لا تكون الغاية فيهما للتخصيص

هذا كله في حكم ما بعد الغاية نفسها ، هل يدخل في المغيا ، كقولك : أكلت حتى قمت ؟ هل يكون القيام محلا للأكل ؟ فيه مذاهب : [ ص: 463 ]

أحدهما : أنه داخل فيما قبله .

والثاني : لا يدخل ، وهو مذهب الشافعي والجمهور ، كما قاله الإمام في برهان " .

والثالث : أنه لا يدل على شيء ، واختاره الآمدي هو ظاهر كلام الرافعي في باب الوضوء .

والرابع : إن كان من جنسه دخل وإلا فلا ، نحو بعتك التفاح إلى هذه الشجرة ، فينظر في تلك الشجرة أهي من التفاح فتدخل أم لا ، فلا تدخل ؟ قاله الروياني في البحر " في باب الوضوء ، وحكاه أبو إسحاق المروزي عن المبرد .

والخامس : قال في المحصول : وهو الأولى إن تميز عما قبله بالحس ، نحو { أتموا الصيام إلى الليل } فإن حكم ما بعدها خلاف ما قبلها ، وإن لم يميز حسا استمر ذلك الحكم على ما بعده ، مثل : { وأيديكم إلى المرافق } فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس قال القرافي : وقول الإمام : يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها مدخول من جهة أنا لا نعلم خلافا بعد الغاية . وهذا يقتضي ثبوت الخلاف فيه ، والخلاف ليس إلا في الغاية نفسها .

والسادس : إن اقترن " بمن " لم يدخل ، نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ، فلا يدخل في البيع ، وإن لم يقترن جاز أن يكون تحديدا وأن يكون بمعنى " مع " . [ ص: 464 ] قال إمام الحرمين في البرهان " : إنه مذهب سيبويه . وأنكره عليه ابن خروف وقال : لم يذكر سيبويه منه حرفا ، ولا هو مذهبه ; والذي قاله في كتابه : إن " إلى " منتهى الابتداء . تقول : من مكان كذا إلى كذا ، وكذلك " حتى " قال : ولها في الفعل حال ليس " لإلى " . تقول : قمت إليه ، فتجعله منتهاك من مكانك ، ولا تكون " حتى " هنا . فهذا أثر " إلى " ، وأصلها ، وإن اتسعت فهي أعم في الكلام من " حتى " : تقول : قمت إليه ، فتجعله منتهاك من مكانك . ولا تقول " حتاه " . هذا لفظ سيبويه . ولم يذكر في كتابه غير ذلك .

وهذا كله في غاية الانتهاء ، أما غاية الابتداء ففيها قولان فقط . قاله القرافي . وطرد الأصفهاني الخلاف فيها ، فقال : وفيها مذاهب : يدخلان . لا يدخلان ، ثالثها : تدخل غاية الابتداء دون الانتهاء . رابعها : إن قرب حسا خرجت ، وإلا دخلت . خامسها : إن اختلف الجنس خرجت . ثم قال القرافي : وهذا الخلاف مخصوص " بإلى " ولا يجري في " حتى " لقول النحاة : إن المعطوف بحتى شرطه أن يكون من جنس ما قبلها ، وداخلا في حكمه ، وآخر جزء منه أو متصلا به ، أو فيه معنى التعظيم أو التحقير ، فقطعوا باندراج ما بعدها في الحكم ، وخالفه الأصفهاني . قال : بل يجري فيها وهي إذا جاءت عاطفة ليست بمعنى " إلى " فلا منافاة بين قول النحويين والأصوليين .

وهاهنا أمور : أحدها : أن هذا الخلاف محله في غاية يتقدمها لفظ يشملها على ما سبق تقريره . [ ص: 465 ]

الثاني : أن من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية ، ويتكرر حتى يصل إليها ، كقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ; فإن السير الذي هو المغيا ثابت قبل الكوفة ، ويتكرر في طريقها . وعلى هذا يمنع أن يكون قوله تعالى : { إلى المرافق } غاية لغسل اليد ، لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط . فليس ثابتا قبل المرفق الذي هو غاية ، فلا ينتظم غاية له ، وإنما ينتظم أن لو قيل : اغسلوا إلى المرافق لأن مطلوب الغسل ثابت إلى المرفقين ومتكرر .

قال بعض الحنفية : فتعين أن يكون المغيا غير الغسل ، ويكون التقدير : اتركوا من آباطكم إلى المرافق فيكون مطلق الترك ثابتا قبل المرفق ، ويتكرر إليه ، ويكون الغسل نفسه لم يغي ، في هذا يتعارض المجاز والإضمار ، فإنه إما أن يتجوز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت قبل الغاية ، ولا يضمر . وإما أن يضمر كما يقول : هذا الحنفي ، ومن هذا قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } يقتضي ثبوت الصيام بوصف التمام قبل غروب الشمس ، ويتكرر إلى غروبها ، وليس كذلك . ويشكل كون الليل غاية للصوم التام ، وإنما ينتظم ، لو قيل صوموا إلى الليل .

قال القرافي : أورده الشيخ عز الدين وأجاب عنه بأن المراد أتموا كل جزء من أجزاء الصوم بسننه وفضائله . وكرروا ذلك إلى الليل ، والكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء الصوم دون جزء ، من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما يأباه الصوم ، وكذلك آدابه الخاصة : كترك السواك ، والتفكر في أمور النساء ، وغير ذلك . فأمرنا بتكرير هذا إلى غروب الشمس .

الثالث : أن أصحابنا في الفروع صححوا عدم دخولها فيها إذا [ ص: 466 ] قال : بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار ، لم يدخل الجداران في البيع وصححوا دخول غاية الابتداء دون الانتهاء فيما لو قال : له علي من درهم إلى عشرة ، أو ضمنت مالك عليه من درهم إلى عشرة . فالصحيح لزوم تسعة ، ولو شرط في البيع الخيار إلى الليل انقطع الخيار بغروب الشمس خلافا لأبي حنيفة ، فإنه أثبته إلى طلوع الفجر ، وكذا إذا باعه بثمن إلى شهر لم يدخل الشهر الثاني في الأجل . ولو وكله في بيع عين بعشرة مؤجلة إلى يوم الخميس ، لم يدخل يوم الخميس في الأجل . قاله في البحر " ولو حلف ليقضين حقه إلى رأس الشهر ، لم يدخل رأس الشهر في اليمين ; بل يجب تقديم القضاء عليه . ولو قال : أردت " بإلى " معنى " عند " ففي قبوله وجهان ، حكاهما الغزالي في البسيط " ورجح القبول .

التالي السابق


الخدمات العلمية