صفحة جزء
[ ص: 482 ] البحث الثاني في تخصيص المقطوع بالمظنون

وفيه مسائل : الأول : يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور ، وهو المنقول عن الأئمة الأربعة ، فإن الخبر يتسلط على فحواه ، وفحواه غير مقطوع به . قال إمام الحرمين : ومن شك أن الصديق لو روى خبرا عن المصطفى في تخصيص عموم الكتاب لابتدره الصحابة قاطبة بالقبول ، فليس على دراية في قاعدة الأخبار .

واحتج ابن السمعاني في باب الأخبار على الجواز بإجماع الصحابة ، فإنهم خصوا قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } بقوله عليه السلام : { إنا معشر الأنبياء لا نورث } فإن قالوا : إن فاطمة ( رضي الله عنها ) طلبت الميراث ؟ قلنا : إنما طلبت النحلى لا الميراث وخص الميراث بالمسلمين عملا بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يرث المسلم الكافر } وخصوا قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم [ ص: 483 ] الربا } [ بما ورد ] عن أبي سعيد في بيع الدرهم بالدرهمين . وخصوا قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس : { سنوا بهم سنة أهل الكتاب } والمجوس مشركون .

وأما قول عمر ( رضي الله عنه ) : لا ندع كتاب الله ولا سنة نبينا لقول امرأة فيحتمل أن يكون معناه لا ندع كتاب نبينا نسخا ، فإنه لا يقال لمن خص آية من القرآن . أنه ترك القرآن ، وإنما يقال ذلك لمن ادعى النسخ انتهى .

والقول الثاني : المنع مطلقا ، وبه قال بعض الحنابلة ، كما حكاه أبو الخطاب ونقله الغزالي في المنخول " عن المعتزلة ، لأن الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن ، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء . ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق ، وأنهم لأجله منعوا الحكم بالقرعة ، وبالشاهد واليمين . ولنا أن الله تعالى [ ص: 484 ] أمرنا باتباع نبيه ، ولا فرق بين أن يكون مخصصا للظاهر أو مبتدئا ، ولا معنى لإمكان التخصيص مع القول بحجية خبر الواحد قال أهل العراق " به " في الجملة وخالفونا في التفصيل ، فقالوا : وقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أنه مخصوص بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا تنكح المرأة على عمتها } وهو خبر واحد ، وكذا قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية فقالوا : بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع .

الثالث : التفصيل بين ما دخله التخصيص ، وما لم يدخله ، فإن لم يدخله يبقى على حقيقته ، وما دخله بقي مجازا ، وضعفت دلالته ، ونقلوه عن عيسى بن أبان . وهو مشكل بما سبق عنه من أن العام المخصوص ليس بحجة ، لأنه إذا كان حجة لم يبق للقول بتخصيصه فائدة ، إذ فائدة التخصيص بيان أن الصورة المخصوصة لا يتناولها حكم العموم ، والتقدير : لم يبق له حكم ، أو له حكم مجمل غير معلوم ، فيحتاج إلى البيان ، فكيف يجتمع القول بكونه لا يبقى حجة ، مع قوله بجواز تخصيصه بخبر الواحد ، .

وقد حكى إمام الحرمين في التلخيص من كتاب التقريب " عنه أنه إن خص بقطعي جاز تخصيص باقيه بخبر الواحد ، وإلا فلا يجوز افتتاح تخصيصه به . ثم قال : وهذا مبني على أصل له قدمناه ، وهو أن العموم إذا خص بعضه صار مجملا في بقية المسميات لا يسوغ الاستدلال به فيها . فجعل الخبر على التحقيق مثبتا حكما ابتداء ، وليس سبيله سبيل التخصيص إذا حققته ، فإنه لا يجوز الاستدلال باللفظ المجمل في عموم ولا خصوص قبل ورود الخبر وبعده . انتهى . [ ص: 485 ] ولم أر ذلك في التقريب " للقاضي وإنما حكي عنه تجويز تخصيص العام الذي أجمع على تخصيصه ، أو قام الدليل على تخصيصه بكل وجه ، لأنه بالتخصيص حينئذ مجملا ومجازا ، فيجوز لذلك إعمال خبر الواحد في تخصيص أشياء أخر منه .

ونحوه قول الشيخ أبي حامد عن أبي حنيفة : إن كانت الآية العامة دخلها التخصيص جاز تخصيصها بخبر الواحد ، لأنها تصير بالتخصيص كالمجملة ، فيكون ذلك كالبيان وبيان المجمل بخبر الواحد يجوز .

وقال في المحصول " : فأما قول عيسى بن أبان والكرخي فيبنيان على حرف واحد ، وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز ، والمخصوص بالدليل المنفصل عند الكرخي مجاز ، وإذا صار مجازا صارت دلالته مظنونة ، ومتنه مقطوعا ، وخبر الواحد متنه مظنون ودلالته مقطوعة ، فيحصل التعادل . فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في العموم ، فيكون قاطعا في متنه ودلالته ، فلا يرجح عليه المظنون .

وهذا المأخذ الذي ذكروه تردد فيه أبو بكر الرازي في أصوله ، فقال : إن لم يثبت خصوصه بالاتفاق ، لم يجز تخصيصه ، وإلا فإن ثبت واحتمل اللفظ معاني واختلف السلف فيها ، وكان اللفظ يفتقر على البيان جاز تخصيصه ، وتبيينه بخبر الواحد .

قال : وهذا عندي مذهب أصحابنا ، وعليه تدل أصولهم ومسائلهم ، واحتج بكلام عيسى بن أبان ، وذكره . قال : فنص عيسى على أن ظاهر القرآن الذي لم يثبت خصوصه بالاتفاق لا يخص بخبر الواحد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون قال ذلك لأنه كان من مذهبه أن العام إذا خص سقط الاستدلال به فيما عدا المخصوص على ما كان يذهب إليه الكرخي ; ويحتمل [ ص: 486 ] أن يكون مذهبه القول بعموم اللفظ فيما عدا المخصوص ، لأنه أجاز تخصيص الباقي مع ذلك بخبر الواحد ; لأن ما ثبت خصوصه بالاتفاق مما سوغ الاجتهاد في ترك حكم اللفظ لأنه صار مجازا ، أما إذا كان اللفظ محتملا لمعان فيقبل خبر الواحد في إثبات المراد به . انتهى .

ونقل الأستاذ أبو منصور عن عيسى أنه لا يجوز أن يخص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أن يكون قد خص بالإجماع فيزاد في تخصيصه بخبر الواحد . قال : وقال : وإن كانت الآية مجملة ، واختلف السلف في تأويلها ، قبل خبر الواحد في تفسيرها وتخصيصها .

وقال بعض المحققين من الحنفية : لا خلاف بين أصحابنا في أن العام إذا خص منه شيء بدليل مقارن جاز تخصيصه بعد ذلك متراخيا ، وأما العام الذي لم يخص منه شيء فلا يجوز تخصيصه ابتداء بدليل يتأخر عنه عند الشيخ أبي الحسن الكرخي ، وعامة المتأخرين من أصحابنا ، وعند بعض أصحابنا وأكثر الشافعية يجوز تخصيصه متراخيا ابتداء ، كما يجوز متصلا

قال : والمراد بعدم جواز التخصيص بالمتأخر أن المتأخر لا يكون بيانا ; فإن المراد من العام بعضه ابتداء كما هو شأن التخصيص ; بل يكون ناسخا لبعض أفراد العام بإخراجه عن حكم العام ; بل بعد ثبوت الحكم فيه مقتصرا على الحال .

الرابع : إن كان التخصيص بدليل منفصل جاز ، وإن كان بمتصل فلا ، قاله الكرخي ، لأن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا على مذهبه ، فتضعف دلالته ، وهذا المذهب وما قاله مبني على أن دلالة العام على أفراده قطعية ، فإن قلنا : ظنية جاز التخصيص به ، ولهذا قال ابن السمعاني : [ ص: 487 ] ما قاله ابن أبان مبني على أصل لا نوافقه عليه

الخامس : يجوز التعبد بوروده ، ويجوز أن يرد لكنه لم يقع ، حكاه القاضي في التقريب " وحكى قولا آخر أنه لم يرد ; بل ورد المنع منه .

السادس : الوقف . ثم قيل : بمعنى لا أدري . وقيل : بمعنى أنه يقع التعارض في ذلك القدر الذي دل العموم على إثباته والخصوص على نفيه ، ويجري اللفظ العام من الكتاب . في بقية مسمياته ، لأن الكتاب أصله قطعي ، وفحواه مظنون ، وخبر الواحد عكسه ، فيتعارضان ، فلا رجحان ، فيجب الوقف .

وهذا قول القاضي أبي بكر في التقريب " ، وحكاه عنه إمام الحرمين في التلخيص " وإلكيا الطبري : وقال هو متجه جدا ، ولكن الصحيح الجواز ، لإجماع الصحابة عليه في مسائل ، كنفي ميراث القاتل بقوله : { لا يرث القاتل } ، مع قوله : { يوصيكم الله } والنهي عن الجمع بين [ المرأة وعمتها ] مع قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إلى غير ذلك . وغاية المخالف أن يقول : لعل الخبر كان متواترا عندهم ، ثم استغنى عنه فصار آحادا ، فقيل لهم : قد روى الصديق ; { إنا معشر الأنبياء لا نورث } وطرحوا به ميراث فاطمة ( رضي الله عنها ) ، فقالوا : كانوا علموا ذلك ، وإنما ذكرهم الصديق . قلنا : لو كان متواترا لم يخف على فاطمة . ا هـ . تنبيهان

الأول : يجب على أصل القاضي أن يجزم بالتخصيص ، لأن القياس عنده مساو لعموم الكتاب لوقوفه في تخصيصه له كما سيأتي ، فكيف يساوي هو ما دونه ؟ [ ص: 488 ]

الثاني : ذكر ابن السمعاني أن الخلاف في أخبار الآحاد التي [ لا ] تجمع الأمة على العمل بها ، أما ما أجمعوا عليه ، كقوله : { لا ميراث لقاتل ، ولا وصية لوارث } وكنهيه عن الجمع ، فيجوز تخصيص العموم به قطعا ، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها ، ولا يضير عدم انعقاده على روايتها . وقد سبق في كلام الأستاذ أبي منصور ذلك أيضا ، فإنه ألحق هذا القسم بالمتواتر . وقال ابن كج في كتابه : خبر الواحد يخص به ظاهر الكتاب عندنا ، إذا كان لم يجتمع على تخصيصه كآية الرضاع ، فإن أجمع على تخصيصه جاز أن يقضى عليه بخبر الواحد فيما عدا ما أجمعوا عليه كآية السرقة وذهب قوم إلى أنه لا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية