صفحة جزء
تنبيهات

[ هل يخص الحديث بقول راويه من غير الصحابة ]

الأول : زعم القرافي أن صورة المسألة فيما إذا كان الراوي صحابيا ، لأنه يحتمل أنه شاهد من النبي عليه السلام خلاف ما رواه ، فحمله على ذلك . أما غير الصحابي فلا يتأتى فيه خلاف في أن فعله لا يكون حجة على روايته . ا هـ . وغره في ذلك بناؤهم هذه المسألة على الخلاف في أن قوله حجة أم لا ؟ وهذا إنما يكون في الصحابي ، لكن الخلاف في التخصيص بقول الراوي لا يختص بالصحابي ، بل ولا بصورة التخصيص ; بل الراوي [ ص: 534 ] مطلقا من الصحابي ومن بعده ، إذا خالف الخبر بتخصيص أو بغيره ، حتى إذا تركه بالكلية كان مذهبه عند الحنفية مقدما على الخبر ، ولذلك لم يقيد الإمام في المحصول " بالراوي الصحابي ، بل أطلق . ولكن قيد المخالفة بحالة التخصيص ، ولا تتقيد بذلك عندهم .

وصرح إمام الحرمين في البرهان " بما ذكرناه ، فقال : وكل ما ذكرناه يعني في هذه المسألة غير مختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا ، وعمل بخلافه فالأمر على ما فصلناه ، ولكن قد اعترض الأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة لروايتهم ، وهذا كرواية أبي حنيفة خيار المجلس مع مصيره إلى مخالفته ، فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية ، لأنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر ، فمخالفته محمولة على بنائه على هذا الأصل الفاسد ، ولهذا قال : أرأيت لو كانا في سفينة ؟ وكرواية مالك لهذا الحديث مع مصيره إلى نفي خيار المجلس ، وهذه المخالفة أيضا لا تقدح في الرواية ، لأن الذي حمله على هذا فيما أظن تقديمه عمل أهل المدينة على الأخبار الصحيحة ، وقد حكاه عنه ابن القشيري في كتابه هكذا .

ثم قال : ولا ينبغي تخصيص المسألة بالراوي يروي ، ثم يخالف ، بل يجري فيمن بلغه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يخالفه ، وإن لم يكن هو الراوي لذلك الخبر ، حتى إذا وجدنا محملا ، وقلنا : إنما خالف لأنه اتهم الراوي ، فلا يقدح هذا في الخبر ، وإن لم يتجه وجه لمخالفته هذا الحديث إلا المصير إلى استخفافه بالخبر فحينئذ يتعين أن يقال : هذا قدح في الخبر ، وعلم بضعفه . ا هـ .

واعلم أن عبارات الحنفية في تقديم قول الراوي مطلقة ، فلم يفرقوا بين [ ص: 535 ] الصحابي وغيره من التابعين ، وتعقب بعض المتأخرين منهم ، فقال : ينبغي أن يعلم أولا أن مذهب الصحابي هل تقدم على سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فإن كان قوله قبل سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يتأتى هذا الحديث ، والحق مع الشافعية . وإن كان رأيه بعد روايته اتجه قاله الحنفية . ا هـ . والخلاف إنما هو في القسم الأخير ، وما ذكروه من الدليل ممنوع ، لأنه يتوقف على معرفة التاريخ ، وهي مفقودة . وهذا البحث يقتضي تخصيص المسألة بالصحابي

ومثال تخصيص الراوي غير الصحابي حديث سعيد بن المسيب ، عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يحتكر إلا خاطئ } أخرجه مسلم . وفيه : وكان سعيد بن المسيب يحتكر ، فقيل له فقال : كان معمر يحتكر . قال ابن عبد البر : كانا يحتكران الزيت ، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه ، والغلاء ، وعليه جرى الشافعي ، لكنه خصص بقول الصحابي ، لا بقول سعيد . نعم ، قال الرافعي في " الشهادات " : إنما اختص القضاء بالشاهد واليمين بالأموال ، لأن عمرو بن دينار روى الخبر عن ابن عباس ولما رواه قال : وذلك في الأموال . وقول الراوي متبع في تفسير ما يرويه وتخصيصه . انتهى .

الثاني : ما ذكرنا من التفصيل بين أن يكون هو الراوي أو غيره ، وأنه إذا كان غيره وانتشر ، ولم يخالف ، خص به هو الصواب . وهذه الصورة واردة على من أطلق الكلام في هذه المسألة كالآمدي وغيره ، فإنه صرح بأنه لا تخصيص ، سواء كان هو الراوي أو غيره خلافا للحنفية والحنابلة ، وتبعه ابن الحاجب . [ ص: 536 ]

الثالث : إن عمل الراوي بخلاف الحديث ، ينقسم إلى أقسام أخرى سيأتي في باب الأخبار بيانها إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية