صفحة جزء
[ ص: 44 ] فصل في شروط التأويل

وشرطه أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال أو عادة صاحب الشرع . وكل تأويل خرج عن هذه الثلاثة فباطل . وقد فتح الشافعي الباب في التأويل فقال : الكلام قد يحمل في غير مقصوده . ويفصل في مقصوده . وقد اختلفت الآراء في التأويل ، ومدارهم على هذا الأصل ، فيضعف التأويل لقوة ظهور اللفظ ، أو لضعف دليله أو لهما . ومن الثاني منع عموم قوله : { فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية نصفه } حتى لا يتمسك به في وجوب الزكاة في الخضراوات لأن المقصود منه الفصل بين واجب العشر ونصفه ، وكاستدلال بعض أصحابنا في قتل المسلم بالذمي بقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } والحنفية قالوا هذا مفصل في أحكام الآخرة ، مجمل في أحكام الدنيا ، وفي زكاة الحلي بقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } والحنفية قالوا : هذا مفصل في تحريم الكنز ، مجمل في غيره .

ومن الأول حمل بعضهم الاستجمار في قوله : { من استجمر [ ص: 45 ] فليوتر } على استعماله البخور للتطيب . فإنه يقال فيه : تجمر واستجمر ، واللفظ قوي ظاهر في الاستنجاء ، وعليه فهم الناس . ومنه حمل بعضهم الجلوس في قوله : { نهى عن الجلوس على القبر } على الاستنجاء عليه ، واللفظ ظاهر في المرادف للقعود . ومنه حمل الظاهرية حديث : { لعن الله السارق يسرق البيضة } على بيضة الحديد ، وهو بعيد ، لأن سياق الحديث يقتضي خلافه . ومنه حمل بعضهم حديث : { أفطر الحاجم والمحجوم } أي دخلا بذلك في فطرتي وسنتي ، لأن الحجامة مما أمر به صلى الله عليه وسلم واستعمله ، حكاه [ ص: 46 ] البيهقي تلميذ البغوي ، عن بعض مشايخ نيسابور . وقسم شارح " اللمع " تأويل الظاهر إلى ثلاثه أقسام : أحدها : تأويله على معنى يستعمل في ذلك كثيرا ، فهذا يحتاج فيه إلى إقامة الدليل في موضع واحد ، وهو أن المراد باللفظ ما حمل عليه ، كحمل الأمر في قوله تعالى : { وآتوهم من مال الله } على الوجوب ، وحمله على الندب بدليل جائز . لاستعمال الأمر مرادا به الندب كثيرا ، فيحتاج إلى دليل في أن المراد به الندب .

والثاني : تأويله على معنى لا يستعمل كثيرا ، فهذا يحتاج فيه إلى أمرين : أحدهما : بيان قبول اللفظ لهذا التأويل في اللغة .

والثاني : إقامة الدليل على أن اللفظ هنا يقتضيه .

والثالث : حمل اللفظ على معنى لا يستعمل أصلا ، فلا يصح إلا أن يكون دليل التأويل أقوى من دليل . . . كقوله : { فطلقوهن لعدتهن } فإنه يقتضي الطلاق في حال وقت العدة ، وهو زمان الطهر ، فلو قيل : المراد به عدد الطلاق . قال : وهل يجوز التأويل بالقياس ؟ فيه ثلاثة أوجه ، ذكرها في الإرشاد : أحدها : المنع . والثاني ، وهو الصحيح : الجواز ، لأن ما جاز التخصيص به جاز التأويل به ، كأخبار الآحاد . والثالث : بالجلي دون الخفي ، وقد جرت عادة الأصوليين بذكر ضروب من التأويلات هاهنا كالرياضة للأفهام ليتميز الصحيح منها عن الفاسد ، حتى يقاس عليها ويتمرن الناظر فيها . وقد أول الحنفية أشياء بعيدة حكم أصحابنا ببطلانها : [ ص: 47 ] فمنها : تأويلهم { قوله عليه السلام لغيلان بن سلمة الثقفي وقد أسلم على عشر نسوة : أمسك أربعا وفارق سائرهن } بثلاث تأويلات : أحدها : أي : ابتدئ العقد ، إطلاقا لاسم المسبب . على السبب . ثانيها : أمسك الأول . ولعل النكاح وقع بعد على التفريق . ثالثها : لعله كان قبل حصر النساء ، وقبل تحريم الجمع بين الأختين ، فيكون العقد على وفق الشرع . أما الأول : فلأنه فوض الإمساك والفراق إلى الزواج ، ولخلوه عن القرينة المعينة له ، والإحالة على القياس ممتنعة لعدم أهلية السائل له بقرب عهده بالإسلام ، ولعدم فهمهم ذلك منه ، إذ لو فهموا لجددوا العقد ، ولنقل وإن ندر ، وأما الثاني : فلأنه إطلاق المنكر وإرادة المعين من غير قرينة ، ولأن حديث مروان مصرح بنفيه ، وكذلك الثالث لما فيه من التعديل الظاهر ثبوته قبل الإسلام ، ولأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تزوج بأكثر من أربع . ولا جمع بين أختين .

واعلم أن الحامل لأبي حنيفة على هذا التأويل اعتقاده أن أنكحة الكفار صحيحة ، لكن إذا وقع العقد على من يجوز ابتداء العقد عليهن . وأما ما ليس كذلك كالعقد على أكثر من أربع ، أو على من يمنع الجمع بينهما فلا يصح ، ولا يقره الإسلام ، فلما جاء هذا الحديث وظاهره مخالف لقاعدة مذهبه ، توسع في تأويله وعضد تأويله بالقياس من أنها أنكحة طرأ عليها سبب محرم ، فينبغي أن يفسخ أصله ما لو نكح امرأة ، ثم تبين أنها رضيعته . لكنه غفل عن الأمور الموجبة لفساده . وهي أربع : أما الأول : فقوله : أمسك ، ظاهر في استدامة ما شرع في تناوله حتى لو قيل لمن في يده حبل : أمسك طرفك ، فهم استدامة ما بيده .

الثاني : أنه قابل لفظة الإمساك بلفظة المفارقة ، وعلى ذلك التأويل ترتقع المقابلة لأنه قد قيد الإمساك بابتداء عقد ، وذلك لا يكون إلا بعد [ ص: 48 ] مفارقة من يريد إمساكها منهن ، وصار كأنه أمر بمفارقة الجميع . الثالث : أنه فوض له الخيرة فيمن يمسك منهن ، وفيمن يفارق منهن ، وعندهم الفراق واقع ، والنكاح لا يبتدئه ما لم توافقه المرأة عليه ، فصار تخيير التفويض لغوا لا فائدة له ، فقد لا يرضين أو بعضهن الرجوع إليه . الرابع : أن قوله : " أمسك " ظاهره الوجوب . وكيف يجب عليه ابتداء عقد النكاح ، وليس بواجب في الأصل ، ولما دل مجموع هذه الأدلة على فساد هذا التأويل قال القاضي أبو زيد من الحنفية : هذا الحديث لا تأويل فيه ، ولو صح عندي لقلت به . وقال العبدري : الخلاف بين الإمامين في هذه المسألة إنما هو مبني على الخلاف في تعارض القياس ، وظاهر الخبر ، ورأى الأصوليين فيها أنها موكولة إلى اجتهاد المجتهدين ، فمن رأى الخبر أقوى عمل به . ومن رأى القياس أقوى عمل به ، وليس هذا الرأي صحيحا ; بل الصحيح أن دلالة المنطوق به أقوى من دلالة المفهوم ، ودلالة المفهوم أقوى من دلالة المعقول ، وهو القياس . فكما يتقدم الخبر القياس في قوة الدلالة ، فينبغي أن يتقدم في العمل به ، ولهذا كان المجتهد يطلب أولا الإجماع ، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره ، وإن لم يجده طلب النص ، فإن لم يجده طلب الظاهر ، فإن لم يجده طلب المفهوم ، فإن لم يجده فحينئذ يرجع إلى القياس . وقال الهندي : ولو قيل بأن القياس يقتضي ذلك ، لكنه ثبت جواز الاختيار رخصة ، وترغيبا في الإسلام .

ومنها : حملهم حديث : { أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل } على الصغيرة ، ورد بأنها ليست امرأة في حكم اللسان ، كما أنه ليس الصبي بعلا ، وأيضا فهذا ساقط عندهم فإن الصغيرة لو زوجت انعقد النكاح عندهم صحيحا موقوفا نفاذه على إجازة الولي . وقد قال صلى الله عليه وسلم : { فنكاحها باطل } ، وأكده ثلاثا . [ ص: 49 ] ومنهم من قال : باطل أي يؤول إلى البطلان غالبا لاعتراض الولي إجازته لقصور نظرهن ، وهو باطل لأن البطلان صرح به مؤكدا بالتكرار مطلقا وتسمية الشيء بما يؤول إليه إنما يجوز إذا كان ما يؤول إليه كائنا لا محالة نحو : { إنك ميت } ففروا من ذلك ، وقالوا : ذلك محمول على الأمة ، لأنه لا يمتنع تسمية السيد وليا ، فألزموا بطلانه بأن نكاحها كما ذكرنا في الصغيرة ، وبأنه عليه السلام جعل لها المهر بما أصاب منها ، ومهر الأمة لمولاها ، ففروا من ذلك ، وقالوا : هو محمول على المكاتبة ، وأرادوا التخلص من المهر ، فإن المكاتبة مستحقة ، فرد بندور المكاتبة وقلتها في الوجود ، والعموم ظاهر فيه ، فإن " أيا " كلمة عامة ، وأكدها " بما " ، هذا مع أنه ذكره ابتداء تمهيدا للقاعدة ، لا في جواب سائل حتى يظهر تخصيصه .

واعلم أن هذا الصنف من التأويل مقبول عند جماعة من الفقهاء إذا عضده دليل وقال القاضي : إنه مردود قطعا . وعزاه إلى الشافعي قائلا : إنه على جلالة قدره لم يكن لتخفى عليه هذه الجهات للتأويلات ، وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة ( رضي الله عنها ) اعتصام النص ، وقدمه على الأقيسة الجلية ، فكان ذلك شاهدا عدلا على أنه لا يرى التعلق بمثل هذه المسائل .

وذكر القاضي ما حاصله أن النبي عليه السلام ذكر أعم الألفاظ ، إذ أدوات الشرط من أعم الصيغ ، وأعمها " ما " و " أي " فإذا فرض الجمع بينهما كان مبالغا في محاولة التعميم ، أي أن " ما " لو تجردت ، وكانت شرطية كانت من صيغ العموم ، وقد أتي بها زائدة للتأكيد ، فكانت مقوية لما تدل عليه " أي " من التعميم ، كذا فهمه المازري ، ولم يرد أن " ما " المتصلة " بأي " شرطية ، كما فهم ابن الأنباري . ثم اعترض عليه ، وقال : هذه غفلة عظيمة ، ووافقه ابن المنير ، ونسباه إلى إمام الحرمين ، وهو في كلام القاضي ، ومعناه ما عرفت . [ ص: 50 ] ومنها : حملهم قوله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه . والمعنى فإطعام طعام ستين مسكينا ، فجوزوا صرف جميع الطعام إلى واحد ، لأن المقصود دفع الحاجة ، وحاجة الستين كحاجة الواحد في ستين يوما ، فاستويا في الحكم .

وهذا تعطيل للنص إذ جعلوا المعدوم وهو " طعام " مذكورا ، ليصح كونه مفعولا لإطعام ، والمذكور وهو " { ستين مسكينا } " عدما مع صلاحيته لكونه مفعولا " لإطعام " مع إمكان قصد العدد لفضل الجماعة ، وبركتهم ، وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن . وهذه معان لائحة لا توجد في الواحد . وأيضا فلا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال .

قال إمام الحرمين : ولأن " أطعم " يتعدى إلى مفعولين ، والمهم منهما ما ذكر ، والمسكوت عنه غير مهم . وقد ذكر الله تعالى عدد المساكين ، وسكت عن ذكر الطعام ، فاعتبروا المسكوت عنه وهو الأمداد ، وتركوا المذكور وهو الأعداد ، وهو عكس الحق .

أما المازري فانتصر للحنفية بوجهين : فقهي ، ونحوي . أما الفقهي : فلأنه لا يلزم من مذهبهم إبطال النص إلا لو جوزوا إعطاء المسكين الواحد ستين مدا في يوم واحد ، وهم لا يقولون ذلك ، بل يراعون صورة العدد ، ويشترطون تكرير ذلك على المسكين الواحد تكرير الأيام فرارا من أن الله [ ص: 51 ] تعالى أمر بإطعام ستين مسكينا ، ولم يعين مسكينا من مسكين ، ولا خلاف في عدم تعينهم فإذا أطعم مسكينا وتكرر إطعامه بالغداة ، وهو بالغداة مسكين ، فكأنه أطعم مسكينا آخر ، فإذا انتهى التكرار إلى ستين يوما صار مطعما ستين مسكينا ، لكون هذا المسكين كل يوم من جملة المساكين .

وأما النحوي فذكر أن سيبويه قال : إن المصدر يقدر " بما ، وأن " فإذا قدرنا المصدر هنا وهو " الإطعام " بمعنى " ما " اقتضى ذلك ما قالته الحنفية ، ويكون التقدير : فمن لم يستطع فما يطعم ستين مسكينا . وهذا التقدير يخرج أبا حنيفة إلى المذهب الذي أراد ، وإن صدر " بأن " كان التقدير : فعليه أن يطعم ستين مسكينا ، وهذا التقدير الأخير يخرج إلى ما يريد . قال : وقد زاحمنا أبا المعالي فيما يتعلق به من صناعة النحو ، وذكرنا لأبي حنيفة تعلقا منها من وجه آخر ، ذكره الإمام الأول فيها ، وهو سيبويه . ا هـ .

ويقال له : أما الوجه الأول : فإن تعطيل النص حاصل بالاتحاد سواء أعطى في ستين يوما أم لا . فقد عطلوا من النص لفظ الستين ، وللشارع غرض صحيح في العدد على ما سبق ، ولأن في الكفارة نوع تعبد ، وهو العدد ، فالتمسك باللفظ المحصل للمقصود من كل وجه أولى . وأما الثاني : فما نقله عن سيبويه غير معروف في كلامه ، والمنقول عنه أن الذي يقدر به المصدر العامل " أن " المشددة الناصبة لضمير الشأن ، لا " أن " المصدرية و " ما " المقدرة حرف مصدري بمنزلة " أن " . وإنما يتجه ما قاله المازري إذا كانت موصولة لا بمعنى الذي ، فلا فرق بين الإطعام وما يطعم ، ومن الحنفية من أنكر نسبة هذا التأويل لجمهورهم ، وقدره : إعطاء طعام ستين مسكينا .

ومنها : حملهم حديث : { في أربعين شاة شاة } على حذف المضاف ، أي قيمة شاة ، فجوزوا إخراج القيمة ، لأن المقصود دفع حاجة الفقير ، [ ص: 52 ] لأن تخصيص الشاة فيها غير معقول المعنى ، فيصح الإبدال ، لحصول المقصود . وهذا التأويل يؤدي إلى رفع النص وبطلانه كالذي قبله . وقال الغزالي : إنما يلزم ذلك أن لو قيل إن الشاة لا تجزئ ، ولم يقله هو ولا غيره ، وإنما قال : إن القيمة نزلت منزلة الشاة إذا أخرجت وهو توسيع للمخرج ، لا إسقاط . وإنما النزاع مع أبي حنيفة في قوله : إن مقصود الشرع سد الخلة ، ونحن نقول : لا يبعد مع ذلك أن يكون المقصود إعطاء الفقير من جنس مال الغني ، لينقطع تشوف الفقير إلى ما في يد الغني . وأيضا فالحديث ظاهر في إيجاب تعينها ، وتجويز الإبدال محوج إلى الإضمار وإيجاب شيء آخر غير المذكور خلاف الأصل .

ومنها : حملهم حديث : { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } على صوم القضاء والنذر . وهو بعيد ، لأن النكرة المنفية من أدل ألفاظ العموم سيما ما ورد ابتداء للتأسيس . فحمله على النادر مخرج للفظ عن الفصاحة ، وتأويل نفي الكمال أقرب من هذا كما قاله إمام الحرمين ; وحمله الطحاوي على نية صوم الغد قبل المغرب ، وكان يلهج به . وهو أبعد من الأول ، لأن سياقه النهي عن تأخير النية عن الليل ، والحث على تقديمها على اليوم الذي يصوم فيه ، وهذا كالفحوى له . وهو مضاد لما ذكروه ، ولأن حمل النهي على المعتاد أولى ، وتقديم النية غير معتاد ، وحمله على نفي الكمال أقرب مما سبق ، لكنه ضعيف ، لأنه لا يمكن في القضاء والنذر ، فلو استعمل في غيره لنفي الكمال ، وفيه لنفي الصحة ، لزم الاستعمال لمفهومين مختلفين .

ومنها : حملهم قوله تعالى : { ولذي القربى } [ ص: 53 ] على أرباب الحاجات ، ولم يشترطوا القرابة ، فصرفوا اللفظ إلى شيء آخر ، والله تعالى علق الاستحقاق بالقرابة ، ولم يتعرض لذكر الحاجة ، وهي مناسبة مع ذلك ، فاشترطوا الحاجة ، ولم يشترطوا القرابة ، وهذا خلاف ما تقتضيه لام التمليك وترتب الحكم على الوصف المناسب ، ولأن الحاجة زيادة على النص ، وهي نسخ عندهم ، لا يثبت بخبر الواحد ، فكيف بالقياس .

وكونه مذكورا مع اليتامى والمساكين مع قرينة إعطاء المال ليس قرينة فيه ، وإلا لزم النقص في حق الرسول لوجودها فيه . قال إمام الحرمين : ولو حتموا صرف شيء إلى القرابة بشرط الحاجة لكان قريبا . ا هـ . لكن مذهبهم أن الخمس مقسوم على ثلاثة أسهم ، ويعطي ذوي القربى من سهم المساكين لفقرهم ، فعلى هذا ذكر القرابة كالمقحم الكياظم ، وهو تعطيل للنص . فإن قالوا : ذكر القرابة للتنبيه على أنه لا يجب منعهم كما في الصدقات ، لا في وجوب الصرف إليهم . قلنا : هذا بعيد ، لما فيه من إبطال دلالة اللام وواو العطف المقتضي للاستحقاق ، وفيه عطف العام على الخاص مع تخلل الفصل ، وهو غير معهود في اللغة ، وذكر الغزالي أن هذا التأويل عنده من محل الاجتهاد ، وليس من المقطوع ببطلانه ، وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ " القربى " بالمحتاجين منهم كما فعله الشافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم في سياق هذه الآية . ا هـ . وما فعله الشافعي أقرب ، لأن لفظ " اليتيم " مع قرينة إعطاء المال يشعر [ ص: 54 ] بالحاجة فاعتبارها يكون اعتبارا لما دل عليه لفظ الآية ، فاليتم المجرد غير صالح للتعليل . بخلاف القرابة فإنها بمجردها مناسبة للإكرام باستحقاق خمس الخمس .

وما ذكره الغزالي محمول على أنهم يعطون القريب بشرط الحاجة ، ولكن سبق عنهم خلافه .

وقوله : ليس فيه إلا تخصيص عموم ذوي القربى بالمحتاجين . قيل عليه : كيف يصح ذلك ، وفي الآية ذكر المساكين ؟ فيلزم من هذا التخصيص التكرار في الآية ، ولا يلزم مثل ذلك في اليتامى ، فإن اليتم يفيد الاحتياج للعجز ، ويمكن أن يقال : ذكر القرابة يخص فيه في المحتاجين منهم ، وهو توكيد أمرهم .

ومنها : حملهم حديث : { أمر بلال أن يشفع الأذان ، ويوتر الإقامة } على أن يؤذن بصوتين ، ويقيم بصوت . قال ابن السمعاني في " الاصطلام " : وهذا ليس بشيء ، لأن في الخبر إضافة الشفع والإيتار إلى الأذان والإقامة ، والأذان والإقامة هي الكلمات لا الصوت المسموع فيهما ، على أنه قال في الخبر : الإقامة ، وعندهم كما يقول سائر الكلمات في الإقامة بصوت واحد ، كذلك يقول : قد قامت الصلاة [ قد قامت الصلاة ] بصوت واحد ، فبطل التأويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية