صفحة جزء
مسألة حرف النفي قد يدخل على الماهية

والمراد نفي الأصل ، كقوله : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } وقوله : { فاليوم لا يخرجون منها } وقد يراد به نفي الكمال مع بقاء الأصل ، كقوله تعالى : { إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } ثم قال : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } فنفاها أولا ، ثم أثبتها ثانيا ، فدل على أنه لم يرد نفي الأصل ، بل نفي الكمال . وهذا كله إنما أخذ من القرينة ، فأما عند الإطلاق كقوله : { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب } و { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } و { لا نكاح إلا بولي } ، و { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } ونحوه ، فاختلفوا هل هي مجملة أم لا ؟ فنقل الإجمال عن القاضيين أبي بكر ، وعبد الجبار ، والجبائيين أبي علي وابنه ، وأبي عبد الله البصري . قال ابن برهان : إلا أن الجبائيين ادعيا الإجمال من وجه ، والقاضي من وجه آخر . وقال ابن الإبياري : إنما صار القاضي [ ص: 75 ] إلى الإجمال ، لأنه نفى الأسماء الشرعية ، والذي دل اللفظ على نفيه موجود ، فافتقر إلى التقدير ، وتعدد المقدر . ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي . ونقل المازري عن القاضي أبي بكر الوقف . قال : وهو غير مذهب الإجمال ، فيقول : يحتمل عندي نفي الإجزاء ونفي الكمال لا أكثر من ذلك ، حتى يقوم دليل على أحد الأمرين : والقائل بالإجمال يقول : إنه يستغرق جميع الأشياء الصالحة للنفي . قلت : وهذا ظاهر كلام القاضي في " التقريب " . بل صرح في صدر كلامه بأنه بمجمل . وذهب الجمهور إلى أنها عامة ، منهم : القفال الشاشي ، والأستاذ أبو إسحاق ، ونقله إمام الحرمين في " التلخيص " ، وابن القشيري عن معظم الفقهاء ، وصححه ابن برهان ، وابن السمعاني ، وحكاه عن الأصحاب ، وقال ابن القطان : إنه الظاهر . قال : وتجاهل قوم فقالوا : ليس فيه دلالة على دفعه .

قال شارح " اللمع " : واختلفوا إلى ماذا يعود النفي على وجهين : أحدهما : إلى نفي المذكور ، وهو النكاح الشرعي ، والصلاة الشرعية ، والصوم الشرعي ، لأنه الذي ورده به الشرع ، وذلك لم يوجد مع شرطه المذكور ، فاستغنى هذا عن دعوى العموم في المضمر ، وعن حمل الكلام على التناقض ، وعلى معنيين مختلفين ، لأن النبي ( عليه السلام ) بعث لبيان الشرعيات .

وقيل : بل يرجع إلى الصفات التي يقع بها الاعتداد في الكفاية ، كما يرجع النفي عند أهل اللسان في قول القائل ليس في البلد سلطان ، على نفي الصفات التي يقع بما الكفاية ، وهذه الصفات وإن لم تكن مذكورة ، فهي معقولة من ظاهر اللفظ فنزلت منزلة الملفوظ به . [ ص: 76 ] وقال بعض المتأخرين : اختلف الأصوليون في النفي إذا وقع في الشرع على ماذا يحمل ، فقال بعضهم يلحق بالمجملات ، لأن نفيه يقتضي نفي الذوات ، ومعلوم ثبوتها حسا ، فقد صار المراد مجهولا . وهذا الذي قالوه خطأ ، فإن المعلوم من عادة العرب أنها لا تضع هذا النفي للذات في كل مكان ، وإنما تورده مبالغة ، فتذكر الذات ، ليحصل لها ما أرادت من المبالغة .

وقال آخرون : بل يحمل على نفي الذات ، وسائر أحكامها ، ويخص الذات بالدليل على أن النبي عليه السلام لم يرده .

وقال قوم : لم تقصد العرب إلى نفي الذات ، ولكن لنفي أحكامها ، ومن أحكامها الكمال والإجزاء ، فيحمل اللفظ على العموم فيها . وأنكر هذا بعض المحققين ، لأن العموم لا يصح دعواه فيما يتنافى ، ولا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء ، فإذا قدر الإجزاء منفيا لتحقق العموم ، قدر ثابتا لتحقق إشعار نفي الكمال بثبوته ، وهذا يتناقض ، وما يتناقض لا يحتمل الكمال ، وصار المحققون إلى التوقف بين نفي الإجزاء ونفي الكمال ، وادعوا الاحتمال من هذه الجهة ، لا بما قال الأولون ، فعلى هذه المذاهب يخرج { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } . والقائلون اختلفوا في سببه على ثلاثة مذاهب .

أحدها : أنها ظاهرة في نفي الوجود ، وهو لا يمكن ، لأنه واقع قطعا ، فاقتضت إيهاما .

والثاني : أنها ظاهرة في نفي الوجود ، ونفي الحكم ، فصار مجملا .

والثالث : أنها مترددة بين نفي الجواز ونفي الوجود . قال المقترح : وهو الأليق بمذهب القاضي .

قلت : قد سبق التصريح به عنه في كتاب " التقريب " . وصرح بنقله عنه ابن القشيري ، ورده . [ ص: 77 ] وقال القاضي أبو الطيب : الصحيح حمل اللفظ على نفي المنطوق به ، دون صفته لأنه ظاهر اللفظ ، ويغني عن دعوى العموم فيه ، يعني أنه يلزم من نفي الأصل نفي صفته . وقال الأستاذ أبو منصور : الصحيح عندنا أن لفظ النفي في الشرع يقتضي نفي العين ، كقوله : { لا نكاح إلا بولي } ، و { لا صلاة إلا بطهور } فأما قوله : { لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله } فإنما أراد ذكر القلب ، ولا يصح بدونه .

وقوله : { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } أراد بالمسجد المكان الطاهر ، بدليل قوله : { جعلت لي الأرض كلها مسجدا } انتهى .

وأجاز الشيخ أبو حامد تقدير نفي الصحة ، وحكى عن أهل العراق نفي الكمال ، وعن بعض أصحابنا أنه يقتضي نفي الأمرين جميعا . واختار إمام الحرمين والغزالي أن النفي ظاهر في الإجزاء . محتمل على الخفاء لنفي الكمال ، فإن عضده دليل قوي يزيد على قوة الظهور انصرف إلى الكمال وإلا فهو ظاهر في الإجزاء . فعرف الشرع عندهم عرف مقصود ، وله في الألفاظ اللغوية تصرف ، ومعنى الإجزاء عندهم أسماء الصورة الشرعية . وقال الماوردي : إذا كان الحكم مطلقا يحتمل الجواز ، ونفي الكمال . قال : ويجري على مذهب من قال : " يوقف المحتمل " يجعل هذا موقوفا ، لأنه محتمل ، والقائلون بالعموم اختلفوا : هل النفي انصب إلى الأعيان والأحكام فهو عام فيهما ، ثم خصت الأعيان بدليل الحس أو العقل ، وبقيت الأحكام على موجبها ، ويجري ذلك مجرى تخصيص اللفظ العام ، أو انصب إلى الأحكام فقط ، ولا يقدر دخول الأعيان ليحتاج إلى تخصيصه ، لأنه عليه السلام [ ص: 78 ] لم يتعرض للمحسوسات ، فهو عام بالنسبة إلى أفراد الأحكام على قولين حكاهما إمام الحرمين وغيره .

قال ابن القشيري : والمختار أن اللفظ ظاهر في نفي الجواز ، مؤول في نفي الكمال ، فيحمل عند الإطلاق على نفي الجواز ، ولا يحمل على نفي الكمال إلا بدليل ، وهكذا اختاره الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني ، والإمام في " البرهان " ، والغزالي في " المنخول " ، والماوردي ، والروياني في كتاب القضاء ، ونقله أبو بكر الرازي في كتابه عن عيسى بن أبان ، ثم قال : إنه الصحيح . وجزم به ابن القطان . قال : وللتعبير عنه طريقان : إما أن يقول : هو باطل ، أو يقول : لا كذا إلا بكذا ، فظاهر البطلان إلا أن يقوم دليل يصرفه عنه إلى الكمال والفضيلة . قال : وهذا من آكد ما يخاطب به في إيجاب الشيء .

ثم قال إمام الحرمين في " التلخيص " تبعا للقاضي : الذي نرتضيه إلحاق اللفظ بالمحتملات لتردد اللفظ بين الجواز والكمال ، ويستحيل الحمل عليهما جميعا ، ولا طريق إلى التوقف لتعين لفظ المحتملين .

فإن قيل : هذا هو المذهب الأول في ادعاء الإجمال . قلنا : الفرق بينهما أن الذين ادعوا الإجمال أولا استندوا إلى توقع نفي الأعيان ، وهو مستحيل ، ونحن أسندنا ادعاء الإبهام إلى الأحكام . قال : ثم هذا كله إذا قلنا بإثبات صيغ العموم ، فإن منعناه لم نحتج إلى إيضاح وجه الإجمال .

قال الأستاذ أبو إسحاق : فقوله : { لا صلاة إلا بطهور } من قال : إن النفي تعلق بالعين ، منع من الاستدلال به على جواز الصلاة وفسادها . وقال : إن النفي يتعلق بالصورة ، وقد وجدت ، والمصير إلى الجواز والكمال لا بد له من دليل ، ومن جعله عاما في الجميع زعم أنه يوجب نفي الحكم ، [ ص: 79 ] وثبوت العين بالدليل لا يمنع من استعمال الظاهر فيما بعده . وقال : هذا هو الصحيح . ا هـ .

والمختار ، وعليه جماعة أنه إن دخل على مسمى شرعي ، كالصلاة ، فالمراد نفي الصحة لإمكان حمله عليه ، فلا إجمال ، وإن دخل على مسمى حقيقي ، نظر فيه فإن لم يكن إلا حكم واحد تعين كقوله : لا شهادة لمجلود في قذف ، إذ لا يراد به نفي الفضيلة ، وإن كان حكمان : الفضيلة ، والجواز فهو مجمل ، لعدم التعين ، ونحو : ( لا يستوي ) لا يسمى مجملا عند من لا يقول بعمومه .

فائدة المقدر في قوله { لا صلاة لجار المسجد } منع ابن الدهان النحوي تقدير من قدر { لا صلاة لجار المسجد } ، بقوله : لا صلاة كاملة : من جهة الصناعة ، لأن الصناعة لا يجوز حذفها ، فلا يجوز حذف بعضها . قال : وإنما التقدير لا كمال صلاة ، فحذف المضاف فأقام المضاف إليه مقامه ، وكذا قال العبدري في " شرح المستصفى " : من قدر لا صيام صحيح أو مجمل ، فقد أبعد . لأن حذف الصفة وإبقاء الموصوف غير معروف في كلام العرب ، لم يأت إلا في قولهم : سيري سير ، وألفاظ قليلة ، وإنما المعروف ، وهو حذف الموصوف وإبقاء الصفة . .

التالي السابق


الخدمات العلمية