صفحة جزء
إيضاح آخر : [ الثواب والعقاب لا يعلمان إلا من جهة الشرع ] قد تقرر مما سبق أن محل النزاع إنما هو في الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب . فنقول : بين الحسن والقبح وبين الثواب والعقاب تلازم ما ، واتفق المعتزلي مع السني على أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها قبل ورود الشرع ، وافترقا في أن المعتزلي يرى أن الثواب والعقاب ملازم لها فحكم بثبوت الثواب والعقاب قبل الشرع ، لثبوت الحسن والقبح قبله ، فإذا جاء الشرع بعد ذلك كان مؤكدا لحكم العقل ، وأما السني فإنه يرى أن الثواب والعقاب لا يعلمان إلا من جهة [ ص: 191 ] الشرع . فنفى الحسن والقبح قبل الشرع ، وهذا ونحوه من قاعدة أن ما به الاتفاق قد يكون موضع الخلاف ، ونظيره الخلاف في النسخ والبداء .

وبهذا التحرير يخرج لنا في المسألة ثلاثة مذاهب : أحدها : أن حسن الأشياء وقبحها والثواب والعقاب عليها شرعيان ، وهو قول الأشعرية ، والثاني : عقليان وهو قول المعتزلة . والثالث : أن حسنها وقبحها ثابت بالعقل ، والثواب والعقاب يتوقف على الشرع ، فنسميه قبل الشرع حسنا وقبيحا ، ولا يترتب عليه الثواب والعقاب إلا بعد ورود الشرع ، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا ، وأبو الخطاب من الحنابلة ، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصا . وهو المنصور ، لقوته من حيث النظر وآيات القرآن المجيد وسلامته من التناقض وإليه إشارات محققي متأخري الأصوليين والكلاميين ، فليتفطن له . فهاهنا أمران : أحدهما : إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ، والثاني : أن ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد شرع ، ولا [ ص: 192 ] تلازم بين الأمرين بدليل { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } أي بقبيح فعلهم { وأهلها غافلون } أي : لم يأتهم الرسل والشرائع ، ومثلها { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم } أي : من القبائح { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } الآية ، وأما الآيات التي احتج بها القائلون بأنه شرعي إنما تدل على نفي الثواب والعقاب بقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فأخبرنا بأنه لا يعذب قبل البعثة ، وقال تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فلو كان له الحجة عليهم قبل البعثة لما قال : إنما أبعث الرسل لأقطع بها حجة المحتج .

إذا تلخص محل النزاع فله مآخذ : أحدها : أن الحسن عندهم صفة قامت به أوجبت كونه حسنا ، والقبح صفة قامت به أوجبت كونه قبيحا حملا للأفعال على الأجسام . فإن الحسن صفة قائمة بها وكذلك القبح . وعندنا الحسن والقبح إنما هو صفة نسبية إضافية حاصلة بين الفعل واقتضاء الشرع إيجاده أو الكف عنه . فإذا قال الشارع : صل . قلنا : الصلاة حسنة ، وإذا قال : لا تزن : قلنا : الزنى قبيح ، وما ذكروه من أن الحسن والقبح صفتان للفعل باطل ; لأن الصفات أعراض والفعل عرض والعرض لا يقوم بالعرض ; لأنه لا يقوم بنفسه ، وإنما يقوم بالجواهر . فكيف يقوم به غيره ؟ الثاني : أن الشرع ورد عندهم مقررا لحكم العقل ومؤكدا له . وعندنا ورد الشرع كاسمه شارعا للأحكام ابتداء . [ ص: 193 ]

وتحقيق ذلك : أن العقل احتيج إليه قبل الشرع لتقرير مقدماته فالتوحيد ، وجواز البعثة ، والنظر في المعجزات كالثابت للشرع في ذلك ، فإذا قررها انعزل وصار مأمورا بامتثال ما يصدر عنها ، ولهذا أجمع أهل الملة أن النبي الصادق إذا أخبر خبرا لا يدركه العقل وجب الإيمان به وتلقيه بالقبول ، وتلك خصيصة الإيمان بالغيب التي مدح الله بها المؤمنين . والمعتزلة لما قلدوا عقولهم أنكروا عذاب القبر ، وسؤال منكر ونكير ، ووزن الأعمال ووقعوا في عقال الضلال حيث عدلوا عن قول المعصوم ، والحاصل : أنه إذا تعارض التأكيد والتأسيس كان التأسيس أولى ; لأنه أكثر فائدة . ونظيره : إذا تعارض حديثان وأحدهما مخالف للأصل ناقل عن حكمه ، والآخر موافق له مقرر لحكمه . هل يقدم المقرر ; لأنهما دليلان يعضد أحدهما الآخر أو الناقل ; لأنه أفاد فائدة زائدة ؟ قولان . الثالث : اعتقادهم أن الحسن والقبح ملازم الثواب والعقاب ، وعندنا لا تلازم بينهما . الرابع : أن فعل العبد ليس باختياره عندنا فالحسن والقبح يرجعان إلى كون الفعل مأمورا به ومنهيا عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية