صفحة جزء
النوع الحادي عشر [ مفهوم الحصر ] وله صيغ : الأولى : وهي أقواها تقديم النفي على إلا نحو : ما قام إلا زيد ، يدل على نفي القيام عن غيره ، وإثباته له ، ونحو : لا صلاة إلا بطهور ، وهو أحد نوعي الاستثناء ، وقد سبق ، بل قال جماعة : إن ذلك منطوق لا مفهوم ، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في " الملخص " ، ورجحه القرافي في القواعد " . وقال الماوردي : النفي إذا تجرد عن الإثبات فإن كان جوابا لسؤال سائل لا يكون موجبا لإثبات ما عداه ، كقوله : { لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان } فلا يدل على التحريم بالثالثة . وإن كان ابتداء كقوله : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } فيدل على ثبوتها بالطهور ، ويكون نفي الحكم عن تلك الصفة موجبا لإثباته عند عدمها ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي . قال : ويحتمل قول من جعل ما عدا الإثبات في " إنما " موقوفا أن يجعل ما عدا النفي موقوفا . [ ص: 182 ]

وقال سليم في " التقريب " : { لا صلاة إلا بطهور } يفيد إجزاء الصلاة بالطهور . ومن أصحابنا من قال : يفيد أن الطهارة شرط في الصلاة ، ولا يفيد إجزاءها . وهذا غلط ، لأن قوله : ( إلا بطهور ) يقتضي رد جميع ما نفاه بقوله : ( لا صلاة ) وإثباته . قال : وهذا اللفظ لا يدل على وجوب الصلاة والطهارة ، وذهب ابن الدقاق إلى أنه يدل على وجوب الطهارة والصلاة ، وغلط في ذلك ، لأنه يصح استعمال هذا اللفظ في النوافل ، فيقال : لا صلاة نافلة إلا بطهارة . وإنما يدل على صحتها وإجزائها بالطهارة .

وقال إلكيا : المفهوم يجري في النفي كالإثبات ، ولا فرق بين قوله : القطع في ربع دينار ، وبين قوله : لا قطع إلا في ربع دينار . قال : ومن العلماء من قال : إذا قال : لا قطع إلا في ربع دينار ، كان نصا في القطع في الربع مفهوما في الذي فوقه ودونه .

وقال ابن الحاجب في " أماليه " : الإثبات بعد النفي في الاستثناء المفرغ مفيد للحصر ، أي ينفرد ما بعد " إلا " بذلك دون العام المقدر . فإذا قلت : ما جاء إلا زيد ، فزيد منفرد بالمجيء دون الآخرين المقدرين في : ما جاء أحد . وإذا قلت : ما زيد إلا بشر ، لا يلزم أن لا يكون بشرا غيره ، لأنك إنما أثبتها له دون غيرها من الصفات . ولم تتعرض لنفيها عمن عداه . وهكذا في كل مستثنى هو في الحقيقة كالصفة والحال . نحو : ما جاء زيد إلا راكبا ، وما زيد إلا عالم ، لم ترد نفي الركوب والعلم عمن عداه ، وإنما أردت ثبوت هذه الصفات له ، وذلك ثابت . فإن قلت : فلزم أن يكون ثم منفي عام ، وهذا مثبت منه دونه فيكون المعنى إثبات هذه الصفة له دون غيرها من الصفات . وهو غير [ ص: 183 ] مستقيم ، فإنك إذا قلت : ما زيد إلا قائم ، لم يستقم نفي جميع الصفات عن زيد . فالجواب أن هذا كان القياس ، ولكنه أتى على غيره لأمرين : أحدهما : أنه لو اعتبر ذلك لامتنع استعمال هذا الباب فيه ، فيفوت كل معناه منه .

والثاني : أنهم قصدوا إثبات ذلك ونفي ما يتوهم المتوهم مما يضاد ذلك ، وكذلك قوله : { لا صلاة إلا بطهور } فإن المعنى إثبات الطهارة للصلاة المشروعة ، لا إثبات الطهارة لها خاصة ، يلزم أنها إذا وجدت وجدت ، إذ قد توجد الطهارة ولا تشرع الصلاة لفوات شرط آخر .

الثانية : وهو قريب مما قبله في القوة : الحصر بإنما ، نحو : إنما زيد في الدار ، مفهومه أنه ليس في غيرها . قال إلكيا : وهو أقوى من الغاية . وقد نص عليه الشافعي في " الأم " فقال : وإذا أسلم الرجل على يد الرجل ، ووالاه ، ثم مات ، لم يكن له ميراثه من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم : { إنما الولاء لمن أعتق } . وهذا يدل على معنيين : أحدهما : أن الولاء لا يكون إلا لمن أعتق .

والثاني : لا يتحول الولاء عمن أعتق . ولهذا قال الماوردي في " الحاوي " : مذهب الشافعي وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي .

وذهب ابن سريج ، وأبو حامد ، والمروروذي إلى أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل لما تضمنته من الاحتمال ، والمذهب الأول : أنها في قوة ( ما ، وإلا ) ، لكن اختلفوا في أن المنفي فيها بالمنطوق أو المفهوم على وجهين . قال : وعلى هذا فإذا انتفى حكم الإثبات عما عداه ، فقد [ ص: 184 ] اختلف أصحابنا في موجب نفيه عنه .

أحدهما : أوجبه لسان العرب لغة . والثاني : أوجبه دليل الخطاب شرعا . قال : ولا فرق في هذا النوع بين أن يقع جوابا أو ابتداء بخلاف ما سبق في مفهوم الصفة . ا هـ .

وقد قال به الشيخ أبو إسحاق ، والإمام الرازي ، وقال القاضي عبد الوهاب : " إنما " لتحقيق المتصل ، وتمحيق المنفصل ، ونقل ابن القشيري عن القاضي القول به بعد تردده ، لأن العرب لا تفصل بين قولك : إنما الربا في النسيئة ، ولا ربا إلا في النسيئة .

وقد سمى أهل اللغة ذلك تمحيقا وتحقيقا ، ونفيا وإثباتا ، قال ابن القشيري : ولعل الأصح أن الظاهر من هذا اللفظ اقتضاء النفي ، ثم يجوز تركه بدليل . فمن قال بالمفهوم ، قال : هذا نقيض النفي ، ومن لم يقل به تردد . وحكى الغزالي عن القاضي أنه ظاهر في الحصر ، محتمل في التأكيد ، واختاره . وقد سبق في فصل الحروف في الكلام على " إنما " بقية المذاهب . وفيه ما يتعين استحضاره هنا .

الثالثة : حصر المبتدأ في الخبر سواء كان الخبر مقرونا باللام نحو : العالم زيد ، أو مضافا نحو : صديقي زيد ، يفيد حصر المبتدأ في الخبر عند عدم قرينة عهد ، وممن قال بإفادته الحصر إمام الحرمين ، والغزالي ، والهراشي وغيرهم من الفقهاء .

وأنكرها القاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين ، وتبعهم الآمدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية