صفحة جزء
[ ص: 210 ] تنبيهات [ التنبيه ] الأول .

[ تفريع مسألة شكر المنعم على التحسين والتقبيح ] إن الأصحاب جعلوا مسألة شكر المنعم والأفعال مفرعة على التحسين والتقبيح وليس بجيد . أما الأول : فلأن الشكر هو اجتناب القبيح وارتكاب الحسن ، وهو عين مسألة التحسين والتقبيح . فكيف يقال : إنها فرعها ؟ وإلى ذلك أشار ابن برهان في الأوسط " فقال : هذه المسألة عين مسألة التحسين والتقبيح ، ولا نقول : هي فرعها . إذ لا بد وأن يتخيل بين الفرع والأصل نوع مناسبة ، وهي هي . بيانه : أنا نقول معاشر المعتزلة : إن عنيتم بالشكر قول القائل الحمد لله والشكر لله ، فقد ارتكبتم محالا ، إذ العقل لا يهتدي لإيجاب كلمة ، وإن عنيتم بالشكر معرفة الله فباطل أيضا ; لأن الشكر يستدعي تقديم معرفة ، ولهذا قيل : أعرف الله أشكر . فإن قالوا : عنينا بوجوبه عقلا ما عنيتم أنتم بوجوبه سمعا . قلنا : نحن نعني بوجوب شكر المنعم سمعا امتثال أوامره ، والانتهاء عن نواهيه . قالوا : فنحن أيضا نريد بذلك الإتيان بمستحسنات العقول والامتناع عن مستقبحاتها . فقد تبين بهذا التفسير أن هذه هي عين مسألة التحسين والتقبيح حذو القذة بالقذة . فبطلان مذهبهم هنا معلوم من تلك إلا أن [ ص: 211 ] العلماء أفردوا هذه من تلك الجملة ; لعبارات رشيقة تختص بها ومعان موفقة نذكرها يظهر منها سقوط كلامهم فيها .

وأما الثاني : فلأن ما لا يقضي العقل فيها بشيء لا يتجه تفريعه على الأصل السابق ، فإن الأصل إنما هو حيث يقضي العقل هل يتبع حكمه ؟ وإنما الأصحاب قالوا : هب أن ذلك الأصل صحيح فلم قضيتم حيث لا قضاء للعقل ؟ وليس هذا تفريعا على هذا الأصل . [ التنبيه ] الثاني : [ فائدة هذه المسألة ] قال بعض المتكلمين : لا معنى للكلام في هذه المسألة الثانية من حيث إنه ما خلا زمان من سمع ، لكن لا يمنع الكلام فيما يقتضيه العقل لو لم يكن سمع . حكاه سليم الرازي ، وإلكيا الهراسي . ثم قال : وهو بعيد ، فإنه يمكن تقدير المسألة فيمن خلق في جزيرة ، ولم يبلغ أهلها دعوة الملك فهل يعلم أهلها إباحة هذه الأجناس أم لا ؟ وإن حاول محاول ترتيب فائدة شرعية على هذه المسألة لم يعدمها . فإن ما لم يوجد فيه حكم شرعي كان على حكم العقول من الإباحة في رأي أو على الحظر في رأي ، وإن كان من العلماء من لا يجوز خلو واقعة عن حكم لله متلقى من الشرع كالصيرفي ، وهو اختيار إمام الحرمين . وهو الحق عندنا . [ ص: 212 ] فعلى هذا الشافعي يبني على الإباحة تلقيا من الأئمة . وأبو حنيفة يبني على الحظر تلقيا من الشرع ، فلا مخرج عن الشرع . ا هـ . وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ : أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع أو لها تعلق به . أو لها حال يستصحب . قال : فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر ، وإباحة ، ووقف .

وقال الأستاذ أبو منصور : فائدة هذه المسألة مع قولنا إنه لم يخل زمان العقلاء عن شرع وتكليف من الله يظهر في حادثة تقع ليس فيها نص ولا إجماع ولا قياس : فيكون الحكم فيها عند جمهور أصحابنا الوقف مع نفي المدح والذم عمن اعتقد فيها حظرا أو إباحة أو وقفا . ويكون حكمها الحظر عند القائل به قبله . قال القاضي أبو الطيب الطبري وتبعه صاحب القواطع " : فائدة هذه المسألة في الفقه أن من حرم شيئا أو أباحه ، فقال : طلبت دليل الشرع فلم أجده فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا ؟ وهل هذا دليل يلزم خصمه أم لا ؟ وهذا أمر يحتاج الفقيه إلى معرفته والوقوف على حقيقته . قال القاضي أبو الطيب : سمعت ابن داود يحتج على إباحة استعمال أواني الذهب والفضة في غير الشرب .

فقال : الأصل في الأشياء الإباحة ، وقد ورد الشرع بتحريم الشرب فوجب أن يبقى ما عداه على التحليل . [ ص: 213 ] فقال بعض أهل العلم لهذا المحتج : مذهب داود أن هذه الأشياء موقوفة على ما يرد به الشرع ، وحينئذ فلا يجوز إثبات إباحتها بهذا الطريق ، ولا تكون إباحتها بعدم دليل شرعي أولى من حظرها ، وبطل بهذا حجة المحتج . ا هـ . ومما يتخرج على هذا ما لو لم يجد العامي في هذه المسألة ، ولا غيرها واقعة له ، ولا ناقل حكمها . قال ابن الصلاح : فهذه مسألة فترة الشريعة وحملها كما قبل ورود الشرع . والصحيح منه : لا تكليف حكاه عنه في الروضة وأقره ، وخرج في شرح المهذب " عليه النبات المجهول سميته ، واللبن المجهول كونه لبن مأكول أو غيره . ورجح الإباحة ، وهذا ضعيف ; لأن اللبن قد علم حكم الشرع فيه ، وما يباح منه وما يحرم . فالموجود فيه حكم ولكنه متردد بين تحريم وإباحة فلا يحسن تخريجه على هذا الأصل . وأما النبات فلا يبعد تخريجه فيه كحيوان لم يرد فيه نص بحل ولا حرمة . وقد ذكر الرافعي في الأطعمة : أن الماوردي خرجه على هذا الأصل ، وكذلك خرج عليه الماوردي الشعر المشكوك في طهارته ونجاسته ، والنهر المشكوك في كونه مملوكا أو مباحا : وهو تخريج ضعيف ; لما بينا في اللبن المجهول .

ولو وقع رجل على طفل من الأطفال إن أقام على أحدهم قتله ، وإن انتقل إلى آخر من جيرانه قتله . قال الشيخ عز الدين في قواعده " : قد قيل : ليس في المسألة حكم شرعي ، وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها ، ولم نر للشريعة التخيير بين هاتين المفسدتين . فلو كان بعضهم مسلما ، وبعضهم كافرا فهل يلزمه الانتقال إلى الكافر ; لأن قتله أخف مفسدة من قتل الطفل المحكوم بإسلامه ؟ [ ص: 214 ] الأظهر عندي : أنه يلزم ذلك ; لأنا نجوز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم حيث لا يجوز ذلك في أطفال المسلمين ، وبنى في موضع آخر على هذا الأصل ما إذا لم يكن في الفعل مصلحة ما ، ولا مفسدة ما كتحريك الأصبع في الهواء لغير دفع ولا نفع . قال : فالذي أراه أنه مقرر على ما كان قبل ورود الشرع ، إذ ليس في الكتاب والسنة ما يدل على أنه مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك ولا مأذون فيه بل يكون كفعل المجانين والصبيان ومن لم تبلغه الدعوة ، وبنى الماوردي والروياني في كتاب القضاء على هذا الخلاف أيضا تقرير النبي صلى الله عليه وسلم غيره على فعل من الأفعال هل يدل على الجواز من جهة الشرع ، أو من جهة البراءة الأصلية . وكون الأصل هو الإباحة ؟ فإن قلنا : أصل الأشياء على التحريم دل التقرير على الجواز شرعا ، وإن قلنا : أصلها الإباحة فلا . وسيأتي في كتاب السنة إن شاء الله تعالى .

والتحقيق : أن تخريج هذه الفروع كلها لا يستقيم لأمرين : أحدهما : أن الأصل المخرج عليه ممنوع في الشرع ، وإنما ذكره الأئمة على تقدير التنزيل لبيان إبطال أصل التحسين والتقبيح العقليين بالأدلة السمعية . فإن الشرع عندهم كاشف لا يمكن وروده بخلاف العقل ، ومن أطلق من الأصحاب الخلاف ينبغي حمله على أنه هل يجوز الهجوم عليه ابتداء أم يجب التوقف إلى البحث عن الأدلة الخاصة ؟ فإن لم نجد ما يدل على تحريمه ، فهو حلال بعد الشرع بلا خلاف . وإنما ينبغي أن يكون مأخذ الخلاف أن الحلال هل هو ما لم يدل دليل على تحريمه أو ما دل دليل على إباحته ؟ [ ص: 215 ] الثاني : أن الكلام فيما قبل الشرع ، وهذه حوادث بعد الشرع ، وكأنهم رأوا أن ما أشكل أمره يشبه الحادثة قبل الشرع ، لكن الفرق بينهما قيام الدليل بعد الشرع فيما أشكل أمره أنه على العفو . [ التنبيه ] الثالث [ تصحيح الوقف هل يستقيم ؟ ] قيل : كيف يستقيم تصحيح الوقف في هذه المسألة مع " ما " سيأتي في الأدلة المختلفة فيها أن الأصل في المنافع هو الإباحة على الصحيح . قلت : الخلاف هنا فيما قبل الشرع ، وهناك فيما بعد الشرع بأدلة سمعية ، ولهذا عبروا ثم بالإباحة التي هي حكم شرعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية