صفحة جزء
مسألة القياس لا ينسخ ولا ينسخ به أما كونه ناسخا فالجمهور على منعه ، ومنهم الصيرفي في كتابه ، وإلكيا في " التلويح " ، وابن الصباغ ، وسليم ، وأبو منصور البغدادي في " التحصيل " ، وابن السمعاني ، ونقله أبو إسحاق المروزي عن نص الشافعي وكلام ابن سريج ، واختاره أيضا . وقال القاضي الحسين في " تعليقه " في باب الأقضية : إنه الصحيح في المذهب . واختاره القاضي أبو بكر ، ونقله في " التقريب " عن الفقهاء والأصوليين ، قالوا : فلا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس ، لأن القياس يستعمل مع عدم النص ، فلا يجوز أن ينسخ النص . ولأنه دليل محتمل ، والنسخ يكون بأمر مقطوع ، ولأن شرط صحة القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه ، ففي نسخ الأصول بالقياس تحقيق القياس دون شرطه ، وهو ممتنع ، ولأنه إن عارض نصا أو إجماعا فالقياس فاسد الوضع ، [ ص: 290 ] وإن عارض قياسا آخر ، فتلك المعارضة إن كانت بين أصلي القياس ، فهذا يتصور فيه النسخ قطعا ، إذ هو من باب نسخ النصوص ، وإن كان بين العلتين فهو من باب المعارضة في الأصل والفرع لا من باب القياس . قال الصيرفي : لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي ، ولا حظ للقياس فيه أصلا ، اللهم إلا أن يرد خبر لمعنى ، ثم يرد ناسخ لذلك الخبر الذي فيه ذلك المعنى ، فيرتفع هو ودلالته ، كما لو حرم بيع البر بالبر للأكل ، فقسنا كل مأكول عليه ، ثم أحل البر بالبر ، فيصير ما قسناه عليه حلالا ، لأن تحريمه للمعنى الذي أوجبه ما أوجبه في غيرها ، فمتى أزال حكمها بطل حكم ما تعلق بها ، وليس هذا نسخا بالقياس ، إنما هو نسخ للمنصوص عليه بالمنصوص . وقال : كذلك ما أقر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز رفعه بالقياس ، لأنه قد ثبت تحليل عينه ، والقياس يقع فيه الخطأ . انتهى .

والمذهب الثاني : الجواز مطلقا بكل دليل يقع به التخصيص . حكاه القاضي وغيره . وقال الجزري في أجوبة " التحصيل " : لو دل نص على إباحة النبيذ مثلا كما يقول : من يبيحه ، ثم دل نص على تحريم الخمر ، وكان متراخيا عن إباحة النبيذ ، ثم قسنا التحريم في النبيذ على الخمر ، كان القياس الثاني ناسخا . وهذا مبني على أمرين : تقدم إباحة النبيذ ، وكون التحريم في النبيذ بالقياس لا بالنص ، كما قال بعضهم ، وحينئذ يتصور كون القياس ناسخا للنص . وحكى القاضي عن بعضهم أنه ينسخ به المتواتر ونص القرآن ، وعن آخرين أنه إنما ينسخ به أخبار الآحاد فقط .

الثالث : التفصيل بين الجلي ، فيجوز النسخ به ، وبين الخفي فلا يجوز . حكاه الأستاذ أبو منصور وغيره عن أبي القاسم الأنماطي ، إجراء له مجرى التخصيص ، وحكاه صاحب المصادر عن ابن سريج ، وحكى أبو الحسين بن القطان [ ص: 291 ] عن الأنماطي أنه كان يقول : القياس المستخرج من القرآن ينسخ به القرآن ، والقياس المستخرج من السنة ينسخ به السنة . وحكى في موضع آخر عنه أنه جوز ذلك ، وقال : ما لا يحتمل إلا معنى واحدا . وقال : جوزه أكثر أصحابنا إلا أنه لم يقع . وحكى الباجي عن الأنماطي التفصيل الأول ، ثم قال : وهذا ليس بخلاف في الحقيقة ، لأن القياس عنده مفهوم الخطاب ، وهو ليس بقياس في الحقيقة ، وإنما يجري مجرى النص . وقسم الماوردي ، والروياني القياس الجلي ثلاثة أقسام : أحدها : ما عرف معناه من ظاهر النص بغير الاستدلال ، كقوله : { فلا تقل لهما أف } فإنه يدل على تحريم الضرب قياسا لا لفظا على الأصح ، وفي جواز النسخ به وجهان ، والأكثرون على المنع .

الثاني : ما عرف كنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء ، فكانت العمياء قياسا على العوراء ، والعرجاء على القطع ، لأن نقصها أكثر ، فهذا لا يجوز التعبد به بخلاف أصله ، ويجوز التخصيص به ، ولا يجوز النسخ بالاتفاق ، لجواز ورود التعبد في الفرع بخلاف أصله .

الثالث : ما عرف معناه باستدلال ظاهر بتأدي النظر ، كقياس الأمة على العبد في السراية ، وقياس العبد عليها في تنصيف الحد ، فلا يجوز النسخ [ ص: 292 ] به ، ويجوز تخصيص العموم به عند أكثر أصحابنا . ا هـ .

الرابع : التفصيل بين أن تكون علته منصوصة ، كقوله : حرمت الخمر لأجل الشدة ، فهذا يجوز النسخ به مع التعبد بالقياس ، ويرفع به حكم تحليل الأنبذة التي فيها الشدة ، وبين أن تكون مستنبطة فهي على ضربين : أحدهما : أن تستنبط من خطاب متأخر عن الخطاب المعارض لها ، فهذا قد كان يجوز أن يرد الشرع بنسخها للخطاب المتقدم . وإنما منع من ذلك الشرع .

والثاني : أن تكون العلة مستخرجة من خطاب سابق على الخطاب المعارض لها ، فهذا يستحيل أن يرد شرع بنسخها للخطاب المتأخر ، لأن المفهوم من العلة المستنبطة تحريم المباح بدليل الخطاب ، ثم يرد الخطاب المنسوخ بعد العلة الناسخة بالإباحة فيجتمع الحظر والإباحة في حكم واحد ، وذلك يمنع التكليف . قال الباجي في أحكامه : وهذا هو الحق . وفصل الآمدي بين أن تكون العلة منصوصة فيصح ، وإلا فإن كان القياس قطعيا كقياس الأمة على العبد في السراية ، فإنه وإن كان مقدما ، لكن ليس نسخا ، لكونه ليس بخطاب ، والنسخ عنده هو الخطاب ، وإن كان ظنيا بأن تكون العلة مستنبطة فلا يكون ناسخا . وقد سبقه إلى هذا التفصيل صاحب " المصادر " أيضا ، ثم قال : قال القاضي عبد الجبار : إذا كان كذلك يعني العلة منصوصة ، فالأقرب أن الناسخ هو ما كان من جهة الرسول ، ولكن فعلنا بشرط ، وجعل الهندي محل الخلاف في حياة الرسول . وقال : أما بعده فلا ينسخ بالاتفاق . [ ص: 293 ]

وأما كونه منسوخا ففيه مسألتان : إحداهما : مع بقاء أصله ، قال ابن السمعاني : وفيه وجهان كالوجهين فيما إذا نسخ الأصل ، هل يكون ذلك نسخا للقياس ؟ قال : وصورته أن يثبت الحكم في عين بعلة ، ويقاس عليها غيرها ، ثم ينسخ الحكم في تلك العين المقيس عليها ، فالأصح أنه يبطل الحكم في الفرع ، لأن الفرع تابع للأصل ، فإذا بطل الحكم في الأصل بطل في الفرع . وقال ابن برهان في " الأوسط " : نقل عن عبد الجبار أنه لا يجوز نسخ القياس ، لأنه يتضمن نسخ أصوله من الكتاب والسنة ، وهي لم تنسخ . ونقل عنه قول آخر أنه يجوز نسخه . قال : والحق ما ذكره أصحابنا ، وهو أنه يجوز نسخه في زمن الرسول بالكتاب ، لا السنة والقياس . وأما بعد موته فلا يجوز . ا هـ .

وكذا قال إلكيا : قيل لا يصح نسخه ، لأنه مع الأصول ، فما دامت الأصول ثابتة فنسخه لا يصح . قال : وهذا عندنا بعد الرسول ، فإنه إنما تبين بطلانه من أصله ، وذلك ليس من النسخ في شيء ، بل يظهر مخالف أو لا يظهر ، وكيفما قدر فلا يكون نسخا ، وإن كان في عهد الرسول ، فيجوز ذلك إن قلنا بجواز الاجتهاد للغائب عنه ، بناء على الأصول . فإذا طرأ ناسخ بعده صح نسخ القياس ، ثم يتجه أن يقال : ليس نسخ القياس ، فإنه تبع للأصول فإذا ارتفعت ارتفع التبع . وأطلق سليم أنه لا يجوز نسخ القياس . قال : لأنه يستفاد من أصله ، فلا يجوز أن ينسخ مع بقاء حكم أصله . وقال صاحب " المعتمد " : منع القاضي عبد الجبار من نسخ القياس . قال : لأنه تبع للأصول ، فلم يجز مع ثبوتها رفعه ، ولأنه إنما ثبت بعد انقطاع الوحي . [ ص: 294 ]

وقال في الدرس : إن كان معلوم العلة جاز نسخه . قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو نص على أن علة تحريم البر هي الكيل ، وأمر بالقياس ، لكان ذلك كالنص في تحريم الأرز ، فكما جاز أن يحرم الأرز ثم ينسخه جاز أن ينسخ عنا تحريم الأرز المستفاد بهذه العلة المنصوص عليها ، ويمنع من قياسه على البر . وقال البيضاوي في منهاجه " : إنما ينسخ بقياس أجلى منه . وقال الإمام فخر الدين في " المحصول " تبعا لصاحب " المعتمد " ، وابن الصباغ : ينسخ القياس إن كان في حياته ، فلا يمتنع رفعه بالنص ، وبالإجماع ، وبالقياس ، أما بالنص فبأن ينص عليه السلام في الفرع بخلاف حكم القياس بعد استمرار التعبد بالقياس ، وأما بالإجماع فإنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسا ، ثم أجمعوا على أحد القولين كان إجماعهم رافعا لحكم القياس المقتضي للقول الآخر ، وأما بالقياس فبأن ينص على صورة بخلاف ذلك الحكم ، ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع . ويكون أمارة عليتها أقوى من أمارة علية الوصف للحكم في الأصل الأول . وأما بعد وفاته فإنه يجوز نسخه في المعنى ، وإن كان لا يسمى نسخا في اللفظ ، كما إذا أفتى المجتهد بالقياس ، ثم ظفر بالنص أو بالإجماع أو بالقياس المخالف للأول ، فإن قلنا : كل مجتهد مصيب ، كان هذا الوجدان نسخا لقياسه الأول .

وإن قلنا : المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به ، فلم يكن النص الذي وجده آخرا ناسخا لذلك القياس . [ ص: 295 ] قال صاحب " التحصيل " : ولقائل أن يقول : وفي هذه الأقسام نظر ، فليتأمله الناظر . وهو كما قال ، فإن تجويزه نسخ القياس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع ، يناقض قوله قبل ذلك : إن الإجماع لا ينعقد في زمانه ، كما قاله القرافي ، ونقله الإجماع على بطلان الأقسام الثلاثة الأول ليس بجيد ، بل الخلاف ثابت في تجويز نسخ الكتاب بالقياس كما سبق . وقال بعضهم : ينبغي أن يجوز مطلقا ، فإنا وإن قلنا : إن كل مجتهد مصيب فلا خلاف أنه مكلف بما غلب على ظنه ، كالقبلة إذا لم يعينها ، فإنه تكليف بما أدى إليه اجتهاده .

وقال ابن برهان : نقل عن عبد الجبار أنه منع نسخ القياس ، لأنه إنما تنسخ أصوله ، وأصوله باقية لم تنسخ . ونقل عنه الجواز ، والحق البين ما قسمه أصحابنا فقالوا : إذا كان القياس في زمن الرسول جاز نسخه بالكتاب ، والسنة ، والقياس ، فإذا قال : لا تبيعوا البر بالبر ، ونبه على علته فعديناها إلى الأرز ، ثم وجد نص من كتاب الله أو سنة رسوله يقتضي إباحة بيع الأرز بالأرز متفاضلا ، فإنه نسخ لحكم ذلك القياس ، أما بعد وفاته فلا يجوز نسخه ، لأنه يستحيل بعد الوفاة تجدد شرع . وقال الآمدي : العلة الجامعة في القياس إن كانت منصوصة ، فهي في معنى النص ، ويمكن نسخه بنص أو قياس في معناه لو ذهب إليه ذاهب بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، لعدم اطلاعه على ناسخه بعد البحث ، فإنه وإن وجب عليه اتباع ما ظنه ، فرفع حكمه في حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون [ ص: 296 ] نسخا متجددا ، بل تبين أنه كان منسوخا ، وإن كانت مستنبطة فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب ، فرفعه في حقه عند الظفر بذلك معارضة ، ويترجح عليه فلا يكون نسخا ، لكونه ليس بخطاب ، لأن النسخ هو الخطاب . .

التالي السابق


الخدمات العلمية