صفحة جزء
المسألة الثانية

الحكم الثابت بالقياس نسخ أصله يوجب نسخه في قول الجمهور ، كما قاله ابن السمعاني . وصورته ما لو نص الشارع على حكم ، وعلله بعلة ، وألحق غيره به ، ثم نسخ الحكم في الأصل ، فهل يرتفع في الفرع ؟ عندنا يرتفع . وقالت الحنفية : يبقى ، لأنه لو زال لكان زواله نسخا بالقياس ، وهو ممنوع . والصحيح الأول ، لأن الفرع لا يبقى بعد زوال الأصل ، لأنه إذا بقي لا يكون فرعا . وفصل إلكيا الهراسي بين أن ينسخ الأصل لا إلى بدل . فلا يبقى الفرع . وبين أن ينسخ إلى بدل فيبقى . وهو غريب . قال إمام الحرمين : الحق أن المعنى يبقى استدلالا ، وفيه نظر ، فإن شرط الاستدلال عند العامل به أن لا يشهد عليه أصل ، وهذا المعنى قد ألغاه الناسخ . ومنشأ الخلاف في هذه المسألة البحث في ثبوت الحكم ، وكون الوصف علة شرعا ، هل هما متلازمان تلازمهما ؟ والحنفية يعتقدونهما منفكين ، فلا يلزم من بطلان أحدهما بطلان الآخر . واعلم أن التعبير في هذه المسألة بالرفع وقع في عبارات لسليم في .

[ ص: 297 ] التقريب " ، وابن برهان في " الأوسط " ، وإمام الحرمين في " التلخيص " ، وهو أحسن من تعبير غيرهم كابن برهان ، والهندي وغيرهما بالنسخ ، لأن أصحابنا لا يقولون : إن حكم الفرع ينسخ بارتفاع حكم الأصل ، بل يزول لزوال كون العلة معتبرة ، والحكم إذا زال لزوال علته ، لا يقال : إنه منسوخ . قالوا : لو كان نسخ الأصل نسخ الفرع لكان ذلك بالقياس على الأصل إذا لم يرد ناسخ للفرع ، وأجيب بمنعه ، إذ لا جامع وهو لا يتم بدونه ، بل هو لزوال حكم الأصل إذ العلة مبنية عليه . قال الهندي : وهذا يبين أن محل النزاع في زوال الحكم لا من حيث إنه نسخ حقيقة ، إذ زوال الحكم لزوال علته ليس نسخا بالاتفاق . قال القاضي أبو الطيب ، وسليم الرازي ، وإمام الحرمين في " التلخيص " ، وغيرهم : قد بنت الحنفية على أصلهم فرعين ، أنه لا يجوز التوضؤ بالنبيذ المسكر النيء ، وإنما يجوز إذا كان مطبوخا . وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم بالنيء ، وألحقوا به المطبوخ قياسا ، ثم نسخ التوضؤ بالنيء ، وبقي التوضؤ بالمطبوخ .

والثاني : ادعوا أن يوم عاشوراء كان يجب صومه ، ويجوز إيقاع النية فيه نهارا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء أن من لم يأكل ، فليصم . فدل على أنه يجوز إيقاع النية من النهار ، وألحق به [ ص: 298 ] رمضان من حيث إنه صوم . ثم نسخ صوم يوم عاشوراء ، وبقي القياس مستمرا في رمضان . وقد نوزع في هذا المثال الثاني ، لأنه غير مطابق ، من جهة أن حكم القياس مغاير للحكم المنسوخ ، لأن حكم القياس ترك التبييت ، والحكم المنسوخ إنما هو وجوب الصوم ، وليست مسألتنا من هذا القبيل . وقال إلكيا : ذهب أكثر الحنفية إلى جواز الاستنباط من المنسوخ في أمثلة ، لا بد من مساعدتهم على بعضها . كقولهم فيصوم يوم عاشوراء : كان واجبا ، وجوزه الرسول بنية من النهار ، ثم نسخ وجوبه ، فادعوا أن النسخ يرجع إلى تبديل النية ، وما فهمناه من جواز النية من النهار باق بحاله ، لا يتأثر بنسخه ، فإذا عرفنا تماثل الحكمين عند وجوبها من النية ، فالنسخ راجع إلى أحدهما في الوجوب ، لأنه المعنى المنقول منه . قال إلكيا : وهذا حسن لا ريب فيه . نعم ، لو نسخ الأصل لا إلى بدل ، فالفرع لا يبقى دون الأصل . وهاهنا نسخ إلى بدل كما إذا نسخ تحريم التفاضل في الأشياء الأربعة لا يمكن إثبات الحكم بالمعنى المستنبط منه في المطعومات ، لأنه يكون فرعا بلا أصل ، وعلى هذا يبطل قولهم : إن التوضؤ بالنبيذ جائز بحديث ابن مسعود أنه وإن تم أداؤه من حيث كان نقع [ ص: 299 ] التمر ، ولكن يفهم منه إجزاؤه بنبيذ التمر ، حيث إن هذا فرع بلا أصل . قال : وقد يلتبس بهذا ما احتج به الشافعي من حيث وجوب التيمم لكل صلاة تلقيا من قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة } ثم فعل الوضوء لكل صلاة ، فكان التيمم بذلك أولى ، ثم روى الجمع بين صلاتين فأكثر بوضوء واحد ، ولا يجوز ذلك في التيمم عند الشافعي . فلم يعقل من حكم النسخ ما عقل من حكم الأصل ، وهذا خطأ من الظان ، فإن الظاهر دل عليها . .

التالي السابق


الخدمات العلمية