صفحة جزء
مسألة [ وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم ] وأما النسيان : فلا امتناع في تجويز وقوعه من الأنبياء فيما لا يتعلق بالتكليف . قال ابن عطية : وكذلك ما أراد الله من نبيه نسيانه ، ولم يرد أن يكتب قرآنا . وأما ما يتعلق بالتكليف ، فاختلفوا فيه . قال ابن القشيري : والذي نقطع به أنه لا يمتنع وقوعه عقلا إلا أن نقول : النبي لا يقع في نسيان ، ونقيم المعجزة عليه ، وإذا ثبت جوازه عقلا ، فالظواهر تدل على وقوعه ، وقال قوم : لا يقرون عليه ، بل ينبهون على قرب ، وهذا لا يحصل فيه ، ولا يمتنع التراخي في التقرير عليه ، ولكن لا ينقرض زمانهم وهم مستمرون على النسيان ، وادعى فيه الإجماع للمسلمين . قال ابن القشيري : ما أمر بتبليغه فنسي ، فالحكم كما قال : فأما ما أمر [ ص: 19 ] به ثم نسي ، فلا أبعد أن ينسى ثم لا يتذكر حتى ينقرض زمانه ، وهو مستمر على النسيان ، مثل أن ينسى صلاة ، ثم لا يتذكرها . ا هـ . وفصل ابن عطية في الكلام على النسخ بين ما لا يحفظه أحد من الصحابة ، فالنبي معصوم من النسيان قبل التبليغ وبعده ، فإن حفظه جاز عليه ما يجوز على البشر ; لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه قول أبي : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { لم ترفع ، ولكن نسيتها } . وقال : ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان ، وذهب القاضي إلى جوازه ، وأما الإمام الرازي فادعى في بعض كتبه الإجماع على الامتناع ، وحكى الخلاف في بعضها .

قال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني : الظاهر أن ما طريقه التبليغ فيه مما يقطع بدخوله تحت دلالة المعجزة على الصدق ، فهذا هو محل الإجماع ، وما طريقه التبليغ والبيان للشرائع فهو محل الخلاف ، فيحمل كلام الرازي على ذلك . وقد أشار إلى هذا التفصيل القاضي وإمام الحرمين وغيرهما ، وحاصل الخلاف يرجع إلى أن ذلك هل هو داخل تحت دلالة المعجزة على التصديق ، أم لا ؟ فمن جعله داخلا فيها منعه ، وقال : لو جاز تبعضت دلالة المعجزة على التصديق ، ومن جعله غير داخل فيها جوزه لعدم انتقاص الدلالة . وأما القاضي عياض فحكى الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية ، وخص الخلاف بالأفعال ، وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز ، وأن المانعين تأولوا الأحاديث الواردة في سهو النبي صلى الله عليه وسلم على أنه تعمد ذلك ليقع النسيان فيه بالفعل ، وخطأهم في ذلك لتصريحه عليه السلام بالنسيان [ ص: 20 ] بقوله : { إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني } ، ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة والبيان كاف بالقول ، فلا ضرورة إلى الفعل ، وحيث [ قلنا ] بالجواز ، فالشرط - بالاتفاق - أن لا يقر أحدهم عليه فيما طريقه البلاغ لما يؤدي ذلك إليه من فوات المقصود بالتشريع . واشترط الجمهور اتصالا لتنبيه بالواقعة ، وميل إمام الحرمين إلى جواز التأخير . قال القاضي عياض : وأما الأقوال فلا خلاف في امتناع ذلك فيها ، وفي السنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : { قلت : يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم . قلت : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم . فإني لا أقول إلا حقا } .

قال : وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله واجب برهانا وإجماعا كما قاله الأستاذ ، وفي كلام إمام الحرمين ما يقتضي وجود خلاف فيه ، وهو مؤول على ما ليس طريقه البلاغ . وقال الرازي في تفسيره : وأما ما يتعلق بالتبليغ فأجمعت الأمة على العصمة فيه من الكذب والتحريف عمدا وسهوا ، ومنهم من جوزه سهوا ، ولا يحسن حكاية الخلاف بعد إجماع الأمة . والصواب ما قاله القاضي عياض ، وكلامه موافق لجمهور الأمة في ذلك . ثم قال القاضي : وأما ما ليس سبيله البلاغ ولا تعلق له بالوحي ولا بالأحكام ، فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي عن أن يقع خبره في شيء من ذلك كله ، بخلاف مخبره ، لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا ، وأنه معصوم من ذلك كله في كل حال : رضاه وغضبه ، ومزاحه ; لاتفاق المسلمين والصحابة على تصديقه في جميع أحواله ، وتلقيه بالقبول والعمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية