صفحة جزء
[ ص: 43 ] فصل سنتكلم في باب الترجيح على تعارض القولين ، وهنا على تعارض الفعلين ; لتعلقه بأحكام الأفعال وعلى تعارض القول والفعل . [ تعارض الفعلين ] أما الأول : فالمشهور أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال ، بحيث يكون البعض منها ناسخا لبعض ، أو مخصصا له ; لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبا ، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه ; لأن الفعل لا عموم له ، وتأخر أحدهما لا يكون هو الناسخ في الحقيقة ; لأن فعله الأول لا ينتظم جميع الأوقات المستقبلة ، ولا يدل على التكرار ، هكذا جزم به القاضي أبو بكر وغيره من الأصوليين على اختلاف طبقاتهم ، وحكى ابن العربي في كتاب " المحصول " ثلاثة أقوال : أحدها : التخيير . وثانيها : تقديم المتأخر كالأقوال إذا تأخر بعضها . والثالث : حصول التعارض وطلب الترجيح من خارج . قال : كما اتفق في صلاة الخوف ، صليت على أربع وعشرين صفة ، يصح منها ستة عشر خير أحمد فيها ، وقال مالك ، والشافعي : يترجح بما هو أقرب لهيئة الصلاة ، [ ص: 44 ] وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم ، وحكى صاحب " الكبريت الأحمر " عن ابن رشد : أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال ، ومثله برواية وائل وابن مسعود { رفع اليدين في تكبيرة الإحرام حذاء أذنيه } وعدم ذلك . وقال القرطبي : يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب . فإن علم التاريخ فالنسخ ، وإن جهل فالترجيح ، وإلا فهما متعارضان كالقولين ، وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض .

وقال الغزالي : في " المنخول " إذا نقل فعل ، وحمل على الوجوب ، ثم نقل فعل يناقضه . قال القاضي : لا يقطع على أنه ناسخ ; لاحتمال أنه انتهاء لمدة الفعل الأول . قال : وهذا محتمل فيتوقف في كونه ناسخا ، ونعلم انتهاء ذلك الحكم قطعا ; لأن النسخ رفع . قال : وذهب مجاهد إلى أنه نسخ ، وتردد في القول الطارئ على الفعل . قال الغزالي : ولا وجه لهذا الفرق ، والأصح ما ذكره القاضي ، وأطلق إلكيا عدم تصور تعارض الفعلين ، ثم استثنى من ذلك ما إذا علم بدلالة أنه أريد به إدامته في المستقبل ، فإنه يكون ما بعده ناسخا له . قال : وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده . فقال : وإن اختلفت الأخبار في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولكن كان آخر الأمرين على ما رواه الزهري قبل السلام ، وكان يؤخذ من [ ص: 45 ] مراسيم الرسول بالأحدث فالأحدث . واستثنى ابن القشيري من الأفعال ما وقع بيانا ، كقوله : { ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) } فآخر الفعلين ينبغي أن ينسخ الأول ، كآخر القولين ; لأن هذا الفعل بمثابة القول . ا هـ . وهذا من صور ما ذكره إلكيا . وصرح ابن القشيري عن القاضي بأن الأفعال التي لا يقع فيها التعارض هي المطلقة التي لم تقع موقع البيان من الرسول ، وهي التي يتوقف فيها الواقفية ، فلا يتحقق فيها التعارض ، فإن الأفعال صيغ فيها ، ولا يتصور تعارض الذوات والأفعال المتغايرة الواقعة في الأوقات ، ولم تقع موقع البيان ليصرف التعارض إلى موجبات الأحكام .

وأما الأفعال الواقعة موقع البيان ، فإذا اختلفا وتنافيا ، ولم يمكن الجمع بينهما في الحكم ، فالتعارض في موجبهما كالتعارض في موجب القولين . قال : ولا يرجع التعارض إلى ذاتي الفعلين ، بل التلقي والبيان المنوط بهما ، وكذلك لا يتحقق التعارض في معنى القولين ، وإنما يتحقق في الحكم المستفاد من ظاهرهما . ثم قال : وحاصل ما نقول عند تعارض الفعلين تجويزهما إذا لم يكن في أحدهما ما يتضمن حظرا ، سواء تقدم أحدهما أم لا . قال : وهذا ظاهر في نظر الأصولي ; لأن الأفعال لا صيغ لها . ثم فصل ابن القشيري بين ما يقع بيانا ، وما لا يقع بيانا ، كقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي } فآخر الفعلين ينبغي أن ينسخ الأول كآخر القولين ; لأن هذا الفعل بمثابة القول ، وأما ما ليس بيانا فإن كان في مساق القرب فالاختيار أنه على الندب ، فليجر ذلك في آخر الفعلين ; لأنه ناسخ للمتقدم ، كالقولين المؤخرين . [ ص: 46 ]

وقد نقل عن الزهري أنه سجد عليه السلام قبل السلام وبعده ، وكان آخر الأمرين منه قبل ، فرأى العلماء الأخذ بذلك أولى ، ثم قال تبعا لإمام الحرمين : وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما ، واعتقاد كونه ناسخا للأول . وقال : وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا ، فإنه قال في صلاة ذات الرقاع : صح فيها رواية ابن عمر ورواية خوات . ثم رأى الشافعي رواية خوات متأخرة ، وقدر ما رواه ابن عمر في غزوة سابقة . وربما سلك مسلكا آخر فسلم اجتماع الروايتين في غزوة واحدة ، ورآهما متعارضين ، ثم رجح أحدهما ، فرجح رواية خوات لقربها من الأصول ، فإن فيها قلة الحركة والأفعال ، وهي أقرب إلى الخضوع والخشوع . وفيما قاله نظر ، بل كلام الشافعي في " الرسالة " يقتضي عكس ذلك ، فإنه قال : وخوات متقدم الصحبة والسن ، فجعل ذلك مرجحا على رواية ابن عمر . وصرح قبله بأنه رجحها لموافقة ظاهر القرآن ، وأنه أقوى في مكايدة العدو .

ونقل إلكيا في مثل هذا عن الشافعي أنه يتلقى منهما جواز الفعلين ، ويحتاج في تفضيل أحدهما على الآخر إلى دليل . قال إلكيا : وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ، وهذا ما نقله إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر . وقال : إنه ظاهر نظر الأصوليين . [ ص: 47 ] وقال الغزالي في " المنخول " : المختار [ إن ] اتفق الفقهاء على صحة الفعلين ، واختلفوا في الأفضل [ توقفنا في الأفضل ] ، وإن ادعى كل فريق [ يتمسك ] برواية بطلان مذهب صاحبه [ فيتوقف ] ولا يفهم الجواز فيهما ، [ فإنهما ] متعارضان ، ويعلم أن الواقع [ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أحدهما ، ولا يرجح ، وإن اتفقوا على صحة واحد [ فنحكم به ونتوقف ] في الآخر . والشافعي إنما قال ذلك في صلاة الخسوف ، وقد رجح إحدى الروايتين [ لقربه ] إلى هيئة الصلاة .

وقال المازري : إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان ، ولم يمكن تأويل أحدهما طلب التأريخ حتى يعلم الآخر ، فيكون هو الناسخ ، كتعارض القولين . هذا مذهب الجمهور ، ورأى القاضي أن النسخ هاهنا لا ضرورة إليه كما دعت في الأقوال ; لأن الفعل مقصور على فاعله لا يتعداه ، وليس كالصيغ المشتملة على معان متضادة . فإذا وجدنا فعلين متعارضين ، حملناهما على التجويز والإباحة . وهذا فيه نظر ، إلا على رأي من يقول : إن فعله يدل على الإباحة ، وليس القاضي من القائلين به ، والصحيح اتباع آخر الفعلين . قال : وادعى إمام الحرمين أنه قول الشافعي ; لأنه قدم في صلاة الخوف رواية خوات على رواية ابن عمر ; لتأخر رواية خوات ، فإنها في غزوة ذات الرقاع ، ورواية ابن عمر في غيرها ، ونازعه المازري باحتمال أن رواية ابن عمر متأخرة عنها . قال : ولهذا قال الإمام بعده : يحتمل أن يكون الشافعي قدم رواية خوات لضرب من الترجيح ، وفي التعادل بينهما نظر ، فذكره . قال : وأشار الإمام إلى أن المختار ما قاله الفقهاء من الأخذ بآخر الأمرين تاريخا ، وإن كان لا يقطع بذلك عن الصحابة ، والأظهر عنده من أفعالهم اتباع آخر الفعلين ، ولكن يمكن أن يكونوا ( رضي الله عنهم ) قدموا المتأخر تقدمة أولى وأفضل ، لا تقدمة ناسخ على منسوخ . ا هـ . [ ص: 48 ]

وهذه الطريقة تخالف ما سبق ; لأن الأولين لا يقولون بأن الفعل الثاني ناسخ للأول ، إلا إذا دل دليل خاص على تكرر هذا الفعل الخاص في حقه ، وحق الأمة ، فحينئذ إذا تركه بعد ذلك وأتى بمناقض له ، أو أقر أحدا من الأمة على عمل يناقضه ، كان ذلك مقتضيا لنسخ الثاني ، وعلى قول إمام الحرمين والمازري لا يحتاج إلى دليل خاص لذلك الفعل ، بل يكتفون بالأدلة الدالة على اقتداء الأمة بفعله عليه السلام مطلقا أو وجوبا أو ندبا أو إباحة على اختلاف الأحوال . فمتى وقع منه عليه السلام نقيض ذلك الفعل شرع للأمة الثاني أيضا ، كما كان الأول مشروعا لهم ، لكن هل يقتضي ذلك نسخ الأول وإزالة الحكم ، أو يكون كل من الفعلين جائزا ؟ والثاني هو الأول ؟ هذا هو محل نظر الإمام والمازري يميل إلى النسخ .

أما إذا نقل إلينا أخبار متعارضة في فعل واحد ، ولم يصح عندنا أحدها كيف كان ، فالمكلف مخير في الكل ، كسجود السهو قبل السلام أو بعده ، وإن اختلفت الروايات في رفع اليدين إلى المنكبين أو الأذنين ، فهنا يرجح ما يتأيد بالأصل ، فنرجح المنكبين ; لأن الأصل تقليل الأفعال في الصلاة ، وهذا أقل . فإن لم يوجد هذا الترجيح حكم بالتخيير ، كأخبار قبض الأصابع في التشهد .

التالي السابق


الخدمات العلمية