صفحة جزء
[ التعارض بين القول والفعل ] وأما الثاني : وهو التعارض بين القول والفعل : ويتحصل من أفراده [ ص: 49 ] ستون صورة ، وبيانه بانقسامها أولا إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن يعلم تقدم القول على الفعل . وثانيها : أن يعلم تقدم الفعل على القول . وثالثها : أن يجهل التاريخ ، وعلى القولين الأولين إما أن يتعقب الثاني الأول بحيث لا يتخلل بينهما زمان ، أو يتراخى أحدهما عن الآخر ، وهذان قسمان آخران ، وعلى الثلاثة الأول : إما أن يكون القول عاما للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، أو خاصا به ، أوخاصا بهم . والفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صلى الله عليه وسلم ووجوب تأسي الأمة به فيه ، وإما ألا يدل دليل على واحد منهما ، وإما أن يقوم دليل على التكرار دون التأسي أو العكس . هذا حصر التقسيم فيها ، وبيان ارتقائها إلى العدد المتقدم ، أنك إذا ضربت الأقسام الأربعة التي يعلم بها تعقب الفعل للقول أو تراخيه عنه ، وتعقب القول للفعل أو تراخيه عنه في الثلاثة التي ينقسم إليها من كونه يعم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يخصه ، أو يخص الأمة حصل فيها اثنا عشر قسما ، ومجهول الحال من التقدم والتأخر بالنسبة إلى عموم القول وخصوصه [ له ثلاثة ] أيضا . فهذه خمسة عشر قسما ، تضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي أو عدمها أو وجود أحدهما دون الآخر ، فينتهي إلى الستين صورة من غير تداخل ، وأكثرها لا يوجد في السنة ، والحكم فيها على وجه التفصيل يختلف ، ويطول الكلام فيه ، ولا توجد هذه الستون مجموعة هكذا في كتاب أحد من الأصوليين .

وذكر ابن الخطيب في المحصول منها خمسة عشر ، وهو أن المتأخر من القول أو الفعل إما أن يتعقب المتقدم أو يتراخى عنه ، فهذه أربعة تضرب [ ص: 50 ] في الثلاثة التي ينقسم القول إليها من كونه عاما لنا وله ، أو خاصا به ، أو خاصا بنا ، فيصير اثني عشر قسما ، والمجهول الحال من المتقدم والمتأخر ثلاثة أخرى بالنسبة إلى عموم القول وخصوصه أيضا . وذكر الآمدي في الإحكام انقسام الفعل إلى الأربعة ، وهو إما أن يدل دليل على تكرره وتأسي الأمة أو لا ، أو يدل على التكرار دون التأسي أو عكسه ، فإذا جمعت بين الكلامين وضربت الخمس عشرة صورة في الأربعة حصل ستون ، وقد ذكر خلافا في الموضعين ، وهو داخل في هذه الصور الستين : أحدهما : أن يكون القول عاما بالنسبة إلى المخاطبين ، وقد فعله عليه السلام مطلقا ، وورد في بعض صور العموم ، كنهيه عن الصلاة بعد العصر ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر ، ومداومته عليها بعد ذلك ، وكنهيه عن استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة ، ثم فعل ذلك في البيوت ، ففي مثل هذه ثلاثة أقوال : أحدها : وهو قول الجمهور تخصيص العموم بفعله في الحالة التي ورد فيها ، وجعلوا الفعل أحد الأنواع التي خصص بها العموم ، وسواء تقدم الفعل أو تأخر القول الراجح ، وبني العام على الخاص .

وقال الأستاذ أبو منصور : إن تقدم الفعل دل القول على نسخه عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه ، وليس بنسخ عند المانعين له . والثاني : جعل الفعل خاصا به عليه السلام ، وإمضاء القول على عمومه ، ونقله صاحب " المصادر " عن عبد الجبار ، قال : ونسبه إلى الشافعي ; لأنه قال : وعلى جعل الشافعي قوله عليه السلام : { من قرن حجا إلى عمرة فليطف لهما طوافا واحدا } أولى مما روي أنه عليه السلام طاف طوافين ، لما كان الأول قولا ، والثاني : حكاية فعل . [ ص: 51 ]

والثالث : التوقف ، كدليلين تعارضا في الظاهر ويطلب وجه الترجيح ، وجعل صاحب " المصادر " الخلاف فيما إذا ورد قول مجمل ، ثم صدر بعده فعل يصح أن يكون بيانا لذلك المجمل . وجعل بعضهم محل الخلاف ما إذا لم يقم دليل خاص على تأسي الأمة في هذا الفعل المخصوص ، فإن دل عليه دليل خاص كان ناسخا للقول إن تأخر ، وإن جهل التاريخ ففيه ما يأتي من الخلاف . والموضع الثاني : أن لا يكون القول من صيغ العموم ، ويجهل التاريخ في تقدمه على الفعل أو تأخره عنه . كقوله لعمر بن أبي سلمة : ( { كل مما يليك } ) وتتبعه الدباء في جوانب الصحفة . وكنهيه عن الشرب قائما ، وعن الاستلقاء ، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى ، وثبت عنه أنه فعل ذلك فأطلق جماعة من المصنفين في مثل هذا ثلاثة أقوال : أحدها : وهو مذهب الجمهور تقديم القول لقوته بالصيغة ، وأنه حجة بنفسه وظاهر كلام ابن برهان أنه المذهب ، وجزم به إلكيا . قال : لأن فعله لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل ، وحق قوله أن يتعداه ، " فإذا اجتمعا تمسكنا بقوله ، وحملنا فعله على أنه مخصوص به ، وكذا جزم به الأستاذ أبو منصور ، وصححه الشيخ في " اللمع " ، والإمام في " المحصول " ، والآمدي في " الأحكام " ، والقرطبي وابن حزم الظاهري . [ ص: 52 ]

والثاني : تقديم الفعل لعدم الاحتمال فيه ، ونقل عن اختيار القاضي أبي الطيب . والثالث : أنهما شيئان ، لا يترجح أحدهما على الآخر إلا بدليل ، وحكاه ابن القشيري عن القاضي أبي بكر ، ونصره . واختاره ابن السمعاني في " القواطع " . ومنهم من جعل محل هذه الأقوال فيما إذا تعارض القول والفعل في بيان مجمل ، دون ما إذا كانا مبتدأين ، وبه صرح الشيخ في " اللمع " ، وابن القشيري في كتابه والغزالي في " المستصفى " . وعكس القرطبي ، فجعل محل الخلاف فيما إذا لم تقم قرينة تدل على أنه بيان ، وجعل الآمدي وابن الحاجب محل هذا الخلاف أيضا فيما إذا دل الدليل الخاص على تكرر هذا الفعل في حقه ، وعلى تأسي الأمة به ، وعلى أن القول المعارض له خاص به أو بالأمة ، وجهل التاريخ في تقديم أحدهما على الآخر . واختار الآمدي تقديم القول ، واختاره ابن الحاجب إذا كان القول خاصا بالأمة ، وأما إذا كان خاصا بالنبي عليه السلام فالوقف . وللفقهاء في مثل ما مثلنا به طريقة أخرى لم يذكرها أهل الأصول هنا ، وهو حمل الأمر على الندب والنهي على الكراهة ، وجعل الفعل بيانا لذلك ، أو حمل كل من القول والفعل على صورة خاصة لا تجيء في الأخرى كالاستلقاء منهي عنه إذا بدت منه العورة ، وجائز إذا لم تبد منه إلى غير ذلك من الصور التي يمكن الجمع فيها بين القول والفعل ، ويخرج من هذا تخصيص الخلاف بحالة تعذر إمكان الجمع ، فإنه الذي يقع فيها التعارض .

واعلم أن هذا الخلاف إنما يتجه من القائلين بحمل فعله على الوجوب ، فأما القائلون بحمله على الإباحة والوقف ، فلا شك عندهم في تقديم القول [ ص: 53 ] مطلقا ، وقال الأستاذ أبو منصور وإلكيا : إن تقدم القول ومضى وقت وجوبه ، ولم يفعله ، أو فعل ضده علمنا نسخه ، كتركه قتل شارب الخمر في الرابعة بعد أمره به . وإن فعل ما يضاده قبل وقت وجوبه دل على نسخ حكم قوله عند من أجاز نسخ الشيء قبل مجيء وقته ، ولم ينسخ عند من منعه ، وإن قدم الفعل كان القول ناسخا له . وقد استشكل جعل الفعل ناسخا ; لأن شرط الناسخ مساواته للمنسوخ ، أو أقوى ، والفعل أضعف ، وأجاب القرافي بأن المراد المساواة باعتبار السند لا غير ، وذلك لا يناقض كونه فعلا ، ولهذا يجب أن يفصل في هذه المسألة فيقال : القول والفعل إن كان في زمنه عليه السلام وبحضرته ، فقد استويا ، وإن نقلا إلينا تعين أن لا يقضى بالنسخ إلا بعد استواء كل واحد منهما ، فإن كان أحدهما متواترا والآخر آحادا منعنا نسخ الآحاد للمتواتر . قال : وهذا لا بد منه ، ثم قال الأستاذ هذا كله فيما إذا وقع التعارض بين القول والفعل الصادر منه عليه السلام فأما القول من القرآن والفعل من النبي عليه السلام إذا تعارضا ، فإنه يحمل الفعل على خصائصه به ، ولا يجوز نسخ القرآن بفعله ; لأنه لا يجوز عندنا نسخ القرآن بالسنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية